تسريد الحرب في رواية "السماء تمطر خوفاً" تسريد الحرب في رواية "السماء تمطر خوفاً"

تسريد الحرب في رواية "السماء تمطر خوفاً"

محمد فائد البكري- ناقد يمني

 

في سياق العنوان:

التسريد يُقصد به عملية انتقاء أحداثٍ بعينها والعمل على ترتيبها وتركيبها وتنضيدها وفق منظورٍ معين، وتحويلها إلى سردٍ قصصي لتظهير بعدٍ ما أو موقفٍ ما، أو لفت النظر إلى قضيةٍ ما، وبهذا لا يكون عمل الروائي أو القاص تسجيلياً أو توثيقياً، وذلك التصرُّف يحاول أن يجتذب القارئ إلى عالم تلك الأحداث والتفاعل معها. ويختلف التسريد في الرواية عن السرد التقليدي في الواقع في أنه يوظف تقنيات سردية، ويركز على كيفية عرض القصة عرضاً يجعلها مؤثرةً على المتلقي.

أما تسريد الحرب فيقصد به ما يُنتقى من أحداثٍ معينة من أحداث الحرب ومآلاتها وتداعياتها على المجتمع، فحكاية الحرب كما حدثت أو كما تخيلها الروائي لا تُسرد بكاملها فهي ليست غرضاً للتوثيق، وإنما تٌسرد منها بعض المشاهد والأحداث لتظهير جوانب من مأساة الحرب ومن معاناة البشر في ظل الحرب، ويتضمن ذلك تصوير الصراعات والعلاقات، والتمزق النفسي والمعاناة، والتغيرات الاجتماعية والفكرية التي تطرأ على شخصيات الرواية بسبب الحرب.

مجتمع هذه الرواية:

هذه الرواية تركِّز على المجتمع الذي تعيش فيه الشخصيات وتأثير ذلك المجتمع في تكوين تلك الشخصيات، وترصد ما تمارسه القوى الاجتماعية من إكراهات على إرادة الشخصيات. وتنقل مشاهد دالة على هيمنة تلك القوى وتلاعبها بالمجتمع، واستغلالها لفقر الناس وضعفهم، في إنتاج إمكانات السلطة والهيمنة على إرادتهم، ونمثل لذلك ببعض مشاهد دالة:

"قبل الانتخابات بيومين جمع سالم أطفال القرية، ووزع عليهم الحلوى: ما شاء الله... كبرتم... صرتم رجالاً وتستطيعون التصويت في الانتخابات" (ص:51).

هذا المشهد يعطي صورةً لكيفيةٍ من كيفيات استلاب إرادة المجتمع، فهناك:

"في الليلة التي سبقت الانتخابات بيومين، جهز سالم الاحتفالية الكبيرة في ساحة المدرسة... وصل المرشح الأهم للانتخابات مع الأطقم العسكرية لمديرية الأمن كاملة، وغرباء من مناطق أخرى بالدفوف والأناشيد، يهتفون للصاحي مرشح الحزب الأقوى والأهم" (ص:51).

ثم كان ما أرادته تلك القوى التي تتضافر وتتخادم في التمكين لنفسها بكل الوسائل بما في ذلك الوسائل غير المشروعة. وتظهير ذلك جاء على لسان حسان:

"بالطبع نجح الصاحي في الانتخابات، وصار عضو مجلس النواب رغم كل الشكوك التي تثار حول احتياله وهي واردة ومعروفة. ذهب إلى صنعاء ليطل علينا من التلفزيون الأول وانتهى الأمر... بعد مرور سنوات لم يطالب أحد الصاحي بتنفيذ الوعود، بناء المستشفى وشق الطريق وايصال مشاريع الماء والكهرباء، لكنهم كانوا يلقون اللائمة على منافسيه التعساء" (ص:52).

في أكثر من مشهدٍ سنجد أن الفساد والقهر والاستغلال والتعصب من أبرز أسباب الحرب، ولكن القوى المستفيدة من استمرار ذلك الحال، مستمرة في تعميق الخلاف والتناحر والدفع إلى صراع بعض المجتمع ضد بعضه، ومصادرة كل ممانعة مجتمعية أو كل شخصية تريد حياة كريمة، حتى صار واقع الأجيال متوالية من الصراعات ودورات العنف.

يقول السارد عن شخصية "راية":

"هي من هذا الجيل، جيل أحرقت الحروب والأزمات حياته، لا بدَّ أن يعيش مشرداً في منازل بلاده، وأماكن عمله، لا يحلم بتكوين عائلة صغيرة، ولا بمنزل ومكتبة ثابتة فيه، إذا رام الاستقرار سينفق سنوات من عمره في العمل عليه، وستبدد أول حرب أو أزمة سياسة مكتسباته الشخصية هذه" (ص:163).

ذلك التلخيص لحياة "راية" تلخيص لمجتمع بأسره، وتظهير لخطر الحرب وخاصة حين تكون أهلية وداخل المجتمع الواحد؛ فهي ترفع منسوب العنف، وتؤجج الصراع وتنقله من صراع بين الجيوش أو الكيانات السياسية إلى حروب بين الضحايا أنفسهم. وقد نقلت الرواية مشاهد من صراع النازحين ضد بعضهم بعضاً داخل مخيمات اللجوء، بما يكشف عن التوحش وتفاقم الشعور بالحاجة. وهكذا تغدو حرب الجميع ضد الجميع، إنْ جاز أن نستعير من توماس هوبز هذا التعبير.

السارد في هذه الرواية:

صار من القارِّ في نقد الرواية أنَّ السارد مقولةٌ رئيسية في البحث عن المنظور الروائي فمن خلاله يُعرض المسرود ويتم التركيز على موضوع السرد. وفي هذه الرواية تم توزيع السرد بين ساردين رئيسيين، أحدهما "حسان الخالد" وهو شخصية رئيسية في الرواية ومن خلالها جرى سرد أحداث كثيرة، بعضها كان السارد الشاهد فيها وبعضها كان سارداً عليماً بها. أما السارد الآخر فهو "صوت خارجي"، يتدخل في سرد بعض الأحداث والتعليق على بعض العلاقات والمواقف ولا يكشف عن نفسه. وفي بعض مفتتحات فصول الرواية نجد صوته واضحاً.

بدأت الرواية بالسارد حسان الذي أفصح عن نفسه قائلاً:

"استكملت ثلاث سنوات أخرى من الدراسة، رافقتني أيضا الحروب والأزمات. أجلت الانتخابات النيابية الثالثة حتى العام الذي حدثت فيه أحداث2011، وهو العام الذي تخرجت فيه من الجامعة. خرجت ليلاً إلى ساحة التغيير، نصبت خيمة، وهتفت بكل أوجاعي، لم أكن أدرك أن بي لذة كبيرة للصراخ، صوتي المكبوت لم أجد له مجالاً للتنفيس عنه إلا هناك. كان الناس يصرخون ضد النظام، بينما أنا كنت أصرخ ضد الجميع: ضد أقدامي، ضد الشارع والبلاطجة، والأحزاب، وضد الرصيف نفسه" (ص: 79).

في مسار السرد نجد "راوية صقراوي" وهي شخصية رئيسية في الرواية لكنها لا تحضر بصوتها، فهناك ما يسند إليها من خلال ضمير الغائب، ومن خلال ما يسرد عنها تُسرَد أحداث وتُصوَّر علاقات وتبرز مواقف، دون أن يشار إليها أو يأتي على لسانها أي إشارة مباشرة، وما ينقل عنها يجيء على لسان الصوت الخارجي أو على لسان حسان:

"انتصف الليل الثقيل وراية تفكر بحديث أمها..." (ص: 137). وقد "بدت التفاصيل هزلية من وجهة نظر راية: "الحزن في قلب الحزن عبوات تفجر بعضها. اليأس في قلب اليأس اتجاه مبهم لشيء قادم. المصيبة في قلب المصيبة تصغير لإحداهما." (ص: 139).

من الواضح أنَّ السرد الذاتي أكثر حضوراً في الرواية، ففي سياقاتٍ كثيرةٍ نجد السارد يقدم الأحداث ويخبر بها، ويعلق عليها وعلى تصرفات بعض الشخصيات ومواقفها دون أن يعطي لبعض الشخصيات إمكانية التعبير عن نفسها. فمثلاً، يقول عن "راية":

"كانت الاشتباكات قد امتدت باتجاه الطريق المؤدي إلى القرية، لذا لم يكن ممكناً العودة إليها هذه المرة، ثم إنَّ الذاكرة مثخنة بالجراح هناك، والخيار المتاح أن ينزحوا مع الجميع، أينما اتجهت الكتلة الأكبر من الناس يتجهون خلفها. فهمتْ الآن إحساس والدها في نزوحهم الأول بعد تدمير منزلهم في الحرب التي عرفتها في طفولتها. تاريخ الحروب يكرر نفسه، مع اختلاف بعض التفاصيل التي تضعنا في منطقة الإيهام بين التضحية الوطنية والتضحية المقدسة، والتضحية من أجل البقاء في المنزل" (ص:108).

في سياقٍ آخر نجد على لسان "حسان" أيضاً، وهو ينقل مأساة "نحلة العامر" حين التقت به وأرادت أن تحكي له قصتها ثم عمدت إلى التأجيل، وقد أحس حسان بذلك فقال:

"كانت في حديثها تقفز على جمل وكلمات تخشى التلفظ بها، كأنها تمشي في طريق مليء بالوحل أو الشوك. أخشى ألا أتمكن من مساعدتها ونصبح معا بحاجة للمساعدة. تساقط مدن البلاد واحدة تلو الأخرى في الجحيم. وتستمر الحروب والأزمات في تعطيل حياتنا، وسلب قدراتنا على الحياة" (ص:88).

في سياقات نجد السرد الذاتي يستبطن رؤية ذات السارد ومعاناته، فمثلاً على لسان "حسان" وهو الشخصية الرئيسية، ذلك المونولوج:

"لم يعد للحياة أي معنى، وكل الأشياء فيها ليست ملكنا بما في ذلك شعورنا. انقطعت اتصالات والدي، وغابت أخباره، هذه المرة بلا أمل ولا إحساس إيجابي يمنحنا إياه قلب جدتي. مرت سحب كثيرة فوقنا، بعضها توقفت وأمطرت، ومعظمها غادرت إلى أماكن أخرى. ضربتنا شموسٌ كثيرة حتى ذلك الشتاء الذي عثر به عم صقراوي على والدي ميتاً على رصيف الشارع الذي يقع فيه منزلنا" (ص: 76).

في سياقات أخرى، من خلال السرد الذاتي، تبرز التأملات الداخلية للشخصيات لتوضيح الصراعات النفسية التي تعاني منها، أو لإبراز موقفٍ ما. فمثلا على لسان السارد نجد تظهيراً لموقف "راية" من "سالم" نموذج الأذى والفساد والانتهازية، يقول السارد:

"هجمت راية عليه، أطبقت يديها على عنقه بكل قوة، احمرَّ الدم في وجنتيه. وعيناه تتسعان، ثم استرخى كجسد يتدلى من حبل مشنقة، يتلوى بملامح كل القتلة واللصوص الذين تحدثوا وكتبوا على صفحات الجرائد، رأت في ملامحه كل القادة والوزراء ومشائخ القبائل وأحزاب السلطة، رأت سالم. وعمو الدكان، ووجه كل الحروب التي مرت. أرخت يديها بقوة أيادي تسحبها من الخلف، تركته يسعل على أوراقه التي تناثرت على الأرض" (ص:213).

كذلك في مشهد النهاية نجد "راية" تهوي بالمشرط على عنق سالم المسلم- وهو شخصية البطل المضاد، ونموذج الشر والانتهازية- ولكن يعترض مشرطها ذلك الملثم الذي كان يراقبها وانغرز المشرط في كتفه، وحين سحبت قناع الملثم وجدت أنه "حسان"، فتكون المفاجأة لها. وقد نظرت في عينيه: "حسان الخالد ماذا تفعل مع سالم المجرم؟" (ص:229).

الفضاء الروائي:

يرسم الروائي الفضاء الروائي ليحمل القارئ إلى عوالم خيالية، ويحاول استدراجه ضمنياً إلى أجواء الأحداث، ليشعر أنه يحيا فيها وينتقل مع الشخصيات في تلك الأرجاء. والفضاء الذي يرسمه الروائي لغوي عقلي، فقد يسمي أمكنة لا يعرفها أحد، ويرسم أبعادها وتضاريسها وخارطتها، لكن الروائي حين يعمد إلى الإحالة على أمكنة فيزيقية لها رمزيتها أو وظيفة معينة يفعل ذلك ليكون اشتباك القارئ مع الحدث، ومثال ذلك نجده في اختيار المستشفى مكاناً لتسريد آثار الحرب وتداعياتها، حيث "لا يمرُّ يومٌ في المستشفى الكبير دون وصول رجالٍ ونساء بملامح مغبرة ووجوه بائسة ترتدي القنوط، يحملون صورا يبحثون بها عن أقربائهم وجيرانهم وأصدقائهم، يبحثون في غُرف الملاحظة العادية، ثم في غُرف العناية المركزة، آخر المطاف يذهبون إلى ثلاجة الموتى. يسحب الموظف أدراج الجثث المثلجة، تبرز وجوه مخيفة وفاغرة، أجساد متفحمة، أشلاء تنتظر دفنها. يغادرون بخيبة." (ص:167).

على امتداد الرواية نجد أنها تبني فضاءها من خلال الوصف، وهي تناوب بين وصف الأمكنة التي صارت مسارح أحداث الحرب، بين صنعاء وعدن وتعز...إلخ، أو الأمكنة التي لحقتها آثار الحرب أو التي صارت مسارح النزوح والتشرد التي لجأ إليها الهاربون من جحيم الحرب محاولين النجاة بأرواحهم المثخنة بويلات التشرد والنزوح وفقدان الأمن والأمان النفسي والمادي والحياة الكريمة، ويتضمن ذلك توضيح الخلفيات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي ساهمت في اندلاع الصراع. ووصف ما حدث للشخصيات على المستوى النفسي والمادي وهي تضطر للانتقال من المدينة إلى القرية والعكس، ومن مدينة إلى أخرى، حيث "بدأت حمى الحرب تحوم حول المدينة. ومن الصعوبة معرفة اتجاه الحياة الجديدة" (ص:89).

يستغرق الوصف في إبراز ما حل بضحايا الحرب وتسريد يومياتهم في النزوح، كاشفاً عن العلاقات والانفعالات والقناعات وتظهير المأساة التي يعيشونها بسبب الحرب وتداعياتها وآثارها، وهو في مجمله يقصد استثارة مشاعر القارئ وتحفيزه على التفكير في عواقب الحروب والصراعات وتحفيزه على التفكير بمشكلات الحرب وتأثيرها على الحياة اليومية.

تتعدد فضاءات الأحداث وتتنقل الشخصيات الرئيسية، شخصية "حسان" وشخصية "راية" في أماكن مختلفة ومعها تتعدد وظيفة الأمكنة، لكنَّ ظل الحرب يظل مهيمناً، لتبدو كل تلك الأمكنة فضاءً واحداً للحرب، ولو جازت المقاربة نفسياً، فسنسميه فضاء الخوف والشتات والضياع والاغتراب.

بامتداد مأساة الحرب في الجغرافيا وفي النفوس انبنى الفضاء العام، وتمدد بين فضاء الحلم والفكر والتذكر. وتلك الانتقالات بين الفضاءات عبر مشاهد من هنا ومشاهد من هناك يجمعها خيط حدث الحرب حتى في حال انصراف بعض الشخصيات إلى خلوة بالنفس.

في بعض المشاهد يتطابق فضاء الحدث الذي يجري تسريده مع فضاء السرد، فمشهد المجزرة في المدرسة التي لجأ إليها النازحون يعكس حدث الحرب بأبشع صوره، حيث "دوى انفجار ضخم في قلب الأرواح مباشرة، شيء جبار وقوي ينزع الإنسان من نفسه. يوقف الأنفاس بصوته المفزع وظلامه الكثيف. تصاعد غبار حالك غطى على الباب والساحة أمام راية. رائحة البارود قوية في أنفها. جسدها يهتز وأطرافها ترتعش. نهضت تتحسس الطريق بيدها نحو الباب، اصطدمت بالواقفات لتوهن، وتعثرت باللاتي لم يستطعن النهوض. انحسر الغبار فانكشفت الساحة أمامها عن رجال بوجوه دامية، وعلى يسارها أطفال مبثوثين على الأرض بدمائهم. أجساد ممزقة. أصوات تستغيث. برك من الدماء. خوف يفجر الوجوه. مضت أيادي الجميع تمتد إلى الأجساد السليمة، يتناولونها ويركضون بها إلى الفراغ، هو الموت ينتظرهم في الأمام، في منطقة مهجورة لا تؤدي إلى الحياة" (ص:140).

تلك الخلاصة التي في ذهن "راية"، ظلت راسخةً على امتداد وعيها بين زمن طفولتها الذي صادرته حرب صيف 1994م وأجبرتها على مغادرة عدن إلى تعز وتغيُّر حياتها وحياة والديها هناك، وأحداث 2011م التي أرادت من خلالها هي وأبناء جيلها تغيير واقعهم الذي انحدر كثيراً، لكن الحال تدحرج بهم إلى حربٍ صادرت كل ذلك الأمل ورسخت الشعور الدائم بعدم الاستقرار، لدى "راية".

"راية" نموذج الإنسان الحالم المقاوم والمبادر إلى العمل بمعرفةٍ ووعي وإصرار وتعكس انتقالاتها هنا تمزقاً نفسياً؛ فهي تهرب من جحيم الحرب إلى جحيم النزوح، وفي حالة من الضياع والهروب من القصف تقودها الصدفة إلى عدن حيث كانت طفلةً في بيت جدها العدني، وهناك يتضح أن الحرب وصلت إلى هناك، و "يتجلى في ذهن راية وضوح التفاصيل التي توقعتها. مغادرة المنزل والنجاة بالأجساد ليست نجاة من مآلات الحياة التي تصنعها الحروب". (ص:146).

في أحد المشاهد، يصف السارد الدمار الذي خلفته القذائف على المدينة، حيث تتناثر الأنقاض في كل مكان والروائح الكريهة تملأ الهواء، كما في أحد المشاهد يجري وصف معاناة البشر الذين حشرتهم الحرب في خيام ومدارس ومنحتهم لقب نازحين. هذا الوصف يجعل القارئ يشعر بواقع الحرب ويعيش لحظات الألم.

"بدا الأطفال من سكان القرى المجاورة، وكأن فضولهم على وجود مراسل تلفزيوني أكثر من فضولهم على وجود امرأتين لا ترتديان الملابس السائدة. فهم لم يعرفوا بعد معنى كلمة نازح. بدت لهم مرادفة لمفردة مهمش. ترسخ في عقولهم أن المهمشين لا يملكون منازل، هؤلاء فقط يجوز لهم أن يرتدوا أي شيء دون أن يحاسبهم المجتمع. في وسط الساحة اجتمع الرجال والنساء مع بعضهم بملابسهم المتسخة وهيئاتهم المغبرة، ينزفون عرقاً تحت أشعة شمس حارقة، يحتمي الأطفال منها. (ص:135).

هكذا استخدم الفضاء الروائي الوصف لترسيم أبعاد مسرح الحدث، أو لنقل مسرح المأساة، ومن خلال رصد آثار ذلك الحدث على شخصيات الرواية، كان تسريد قضية الرواية.

تنعكس آثار الحرب على كل شخصيات الرواية بشكل واضح، فالحرب تمزق العلاقات وتشتت البشر، وحين تجمعهم في صدفة عابرة فهي تجمعهم في مكان النزوح، وتجعلهم هناك يتأملون في مصيرهم، ويستعيدون أبعاد معاناتهم من الحرب والصراعات، وهم يبحثون عن الحاجات الأولية للحياة من مأكل ومشرب ومكان للنوم. أو تجمعهم من خلال ذكريات تتداعى بين ما كان وما صار فليسوا سوى مسميات أو أطياف تُستحضر لإبراز كيف أنتجت الحرب الشتات. من خلال تصوير كل تلك التغيرات التي طرأت على حياة الشخصيات واقعياً ونفسياً، يكون تسليط الضوء على آثار الحرب على حياة الإنسان.

إلى ذلك، ورغم أن السرد الذاتي بدا مهيمناً فمن الملاحظ أن عدداً من الشخصيات في هذه الرواية أتيح لها أن تكون ذوات اجتماعية، ولكل منها تاريخه النفسي وعمقه الشعوري وأحلامه وطموحاته، ولا يتجسدُ هذا في مستوى الشخصيات الرئيسية وحدها بل يتعداها إلى الشخصيات الثانوية، فهي ليست صدى يعكس ملامح شخصية محورية، بل هي شخصيات تتحاور وتتصارع وكل منها يبحث عن مصلحته ويدافع عن وجوده. وينخرط في الصراع انطلاقاً من موقعه المتباين. بل هناك في الرواية شخصيات لا تلعب دوراً رئيسياً في بناء الأحداث أو تطورها ولكنها أصوات اجتماعية يصرُّ السارد من خلال دورها الثانوي على أن تكون أصواتاً اجتماعيّةً يريد إثباتها وتأكيد وجودها. فهناك شاجع- وهو بحسب المشاهد التي رسمت له- ذات اجتماعية (رجل مقبل على الحياة، له رؤيته الخاصة والمغايرة للكون والوجود)، وهناك "عمو الدكان" وهو شخصية لها خصوصيتها في رؤية الحياة وفي النظر إلى بعض القيم. وهناك شخصية الجد "جد حسان الخالد". وهو صوت اجتماعي مستقل ومغاير، إنَّه صوت المتدين ودوره في مجتمعٍ تسوده التناقضات وتتقاطع فيه الأصوات الاجتماعية. وهناك صقراوي وزوجته. ولذلك يجد القارئ نفسه إزاء حشدٍ من الشخصيات كل منها يسهم في إبراز جانب من مجتمع الرواية، ذلك المجتمع الذي دمرته الحرب.

تقنيات السرد:

في الرواية تقنيات سردية متعددة فهناك الوصف الذي يقدم مشاهد الدمار والخراب الذي لحق بالأمكنة بسبب القتال، وهناك الأوصاف التفصيلية لمعاناة البشر من خلال وصف أشكالهم وهيئاتهم وروائحهم وملابسهم وأكلهم ونومهم... إلخ، وصفاً يعكس ما لحق بهم في النزوح والشتات، ويعمق من ذلك بإتاحة الحوارات والمونولوجات التي تعبِّر فيها الذوات عما كانت عليه وما صارت إليه بسبب الحرب.

هناك أيضاً الاسترجاع الذي من خلاله يبرز تداخل أحداث الشخصيات بأحداث الحرب، فمثلاً وراء اسم "نحلة العامر" تتخفي شخصية "ماريا حبيب" التي كانت في بيئة أسرية لها خصائص عصرية وانتقلت إلى بيئةٍ متدينة ترتب عليها مصادرة استقلالها وحياتها. وانعكس ذلك حتى على حياة أبيها وأمها بعد أن هربت وانقطعت عن دراستها وعن شغفها بالموسيقى، والتحقت بزميلتها أمة الله التي نشأت نشأة متدينة إلى حد التطرف.

كذلك لعبت تقنيتا الاسترجاع والتداعي دوراً في بناء الفضاء الروائي، فعبر المناوبة بينهما غدا فضاء سرد بعض الأحداث امتداداً لفضاء آخر ما تزال تحتفظ به ذاكرة الطفولة، وأبرز ما نجد ذلك في سرد حكاية "راية" حيث اضطرت مع أبيها وأمها إلى النزوح من عدن باتجاه تعز، ولهذا استعادت الأمس، وهي تسرد الحدث مكرراً، حينها "طلب منها والداها النهوض. وصلها خوفهما فطاوعتهما. لم يكن لديها حافزاً للهرب. تعرف مسبقاً من تجربة أول حرب حدثت في طفولتها، أن مغادرة المنزل في هذه الظروف للنجاة بالجسد ليس نجاة من وطأة الحياة التي تصنعها المآلات اللاحقة". (ص:101).

وهناك استرجاع ماضي الأحداث وماضي الذوات والمقارنة بين تاريخ يُعاش مرتين بفعل الحرب، وبين مصائر الشخصيات قبل الحرب وبعدها، كما نجد في سياق تسريد معاناة "راية" حيث الحرب تكرر التاريخ والمأساة معاً وتجعل زمن الذات مشطوراً بين زمن الذاكرة ببعده النفسي والحُلمي والزمن الفيزيقي- زمن الأمكنة- ببعده الاجتماعي والثقافي.

خلاصة:

هذه الرواية ناقشت مأساة الحرب وتعقيداتها وتداعياتها وآثارها المادية والنفسية على الفرد والمجتمع وعلى الجغرافيا أيضا، وكان بادياً حرص الروائي على استثارة مشاعر القارئ تجاه حدث الحرب، وما يلحقه بالمشاعر من آثار، وإذا ما جاز أن نستعير من ألبير تيبوديه أحد تصنيفاته للتأليف الروائي؛ فهذه الرواية رواية انفعال؛ إذ "تعرض شريط حياةٍ وتستمد وحدتها من وحدة الشخصية التي تروي حياتها". ولكن انفعالها كما رأينا لم يكن شعاراتياً أو دعائياً يجعل الشخصيات تلقي بالتعبيرات تعليقاً على الأحداث وتمضي.