
الذات المعلّقة بين الفناء والفتك: خطاب القسر وتحولات الهوية في رواية حزام ناسف
ولاء محمد محمود الشامي- ماجستير في الأدب العربي، مصر
الدخول إلى الهاوية: سلطة الصوت وغواية الفناء
في عتبةٍ سرديةٍ مشبّعةٍ بالذهول، تفتتح رواية "حزام ناسف"- لأحمد أشرف المطري- خطابها لا بحكاية، بل بصاعقة وجودية؛ رجل يفيق ليجد نفسه مُحاطًا بأداة فنائه، لا يدري من أين أتت، ولا بأي منطق أُلصقت بجسده، لكن صوتًا في أذنه يحدّد مصيره؛ صوت لا نراه، لا نتحقق من مادّته، لكنه يمتلك ما هو أخطر من الحضور الفيزيائي، يمتلك سلطةً مطلقةً. هذا الصوت الغريب يؤسس خطابًا قَسْريًّا؛ لا يحتاج إلى سوط أو زنزانة، بل يكفيه أن يُلقي أمرًا في أذن هشّة، لتتحوّل إلى آلة قتل مؤجّلة.
الرواية التي فازت بجائزة السرد اليمني "حزاوي" في دورتها الثانية، تعرض صفقة شيطانية، أمام استحالة الانتحار الذي يبدو كأنه رفض مطلق. هذه الصفقة المُبرمة لا تشبه أي تفاوض أخلاقي مألوف؛ فتنفيذ أوامر الصوت مقابل تمديد مؤقت للعمر، والنجاة لا تُمنح بالمقاومة، بل بالخضوع للعنف. الحياة، التي لطالما اعتُبرت القيمة العليا، تُشترى هنا بالقتل، فتُمثّل قلبًا جذريًا لفكرة القيمة الإنسانية. وهنا يتجلى جوهر الإذلال الوجودي؛ حين يتحول الوجود إلى مذلة مؤجلة لا تعني الاستمرار بقدر ما تعني تأجيل النهاية. كل تمديد للزمن يصبح مثقلًا بالخيانة، بالخزي، وبفقدان أجزاء من الذات يصبح البطل، مع كل فعل قسري جديد، غريبًا عن نفسه أكثر فأكثر..
في هذا الخطاب الجدي المشروط بالعنف، يُفرَغُ الفعلُ الإنسانيّ من دلالته الأخلاقية، ليُعاد تشكيله داخل منظومة قسرية مغلقة؛ فلا "خير" ولا "شر"، بل فقط "أوامر" و"نتائج". والإنسان فيها لا يقتل بدافع الكراهية، ولا يحيا بدافع الأمل، بل يصبح كائنًا إجرائيًا يُنفّذ ليعيش، رهينةً في مفاوضة لا يملك شروطها.
هنا تنزاح الرواية من الإطار الواقعي إلى الوجودي، ومن الحكاية إلى المأزق: الإنسان لا يختار، بل يُؤمر؛ لا يخطّط، بل يُقاد. الخطاب الآمر هنا يتجاوز حدود السياسة أو الحرب أو الأيديولوجيا، ليلامس جوهر الفلسفة: هل الإرادة الإنسانية وهمٌ يحجب استلابًا كاملًا للذات؟
الرواية تؤسس باكرًا لمعادلة لغوية مفزعة: من يقتل يحيا، ومن يتردّد يُفجّر. الدم يتحوّل إلى عملة تُبادَل، والزمن يصبح مكافأة على الذبح. وبين مفارقة الدم والزمن، تتهاوى الهوية في قبضة خطاب لا يرحم.
الحياة المعلقة: جدلية الوقت والموت
يعود النص ليعزف على وتَر مأساوي آخر هو مأساة الزمن المنقوص، "الحياة التي أقتل الناس من أجل أربع وعشرين ساعة فقط لا أستنفع بها." بهذه الجملة، يفتح البطل جرحًا وجوديًا عميقًا: أي حياة هذه التي لا تمنحك إلا أن تتسكع في انتظار موت آخر؟ أين المعنى في أن تتحول كل ثانية إلى عبء مرعب لا يرحم؟ هنا لا يعود الوقت امتدادًا للحياة، بل يتحول إلى ساحة قتال مستمرة بين البقاء والانهيار. كل قتل هو تمديد زائف للحياة، كل تنفس هو وعد خادع بانطفاء قريب. هذه الجدلية الزمنية المسمومة تكشف أن الإنسان، حين يُنتزع منه حق الاختيار، يفقد علاقته الطبيعية بالزمن. يصبح كل يوم إضافي لعنة لا هدية، وتغدو الحياة تجربة عبثية محضة، بلا جدوى، بلا تعزية.
صورة الذات بين القاتل والضحية: أي خلاص ممكن؟
يتحول البطل تدريجيًا إلى شبح لإنسانيته؛ يطعن وهو يذوي، ويعيش وهو ميت. في كل ضحية جديدة يسقط جزء من إنسانيته، ومع كل يوم ينتزعه الألم، فيتآكل جزء آخر من روحه. يتساءل بحزن: "لماذا؟ هربًا من الموت؟ يا لحماقتي! إنني أموت في كل يوم ألف مرة."
لا تفتح الرواية أي أفق للخلاص؛ لا توبة ولا اعتراف يكسر دائرة الذل، بل فقط استمرار في لعبة الموت البطيء أو السقوط الفوري. تتجلى الخلفية الفلسفية هنا بوضوح: هل يستطيع الإنسان أن يحيا بلا أمل؟ هل يمكن أن يعيش وهو يعلم أن كل شيء من حوله مُدمر، وأن نجاته ليست سوى تأجيل لكارثة مُحقّقة؟ تتبدّى صورة الإنسان المعاصر ككائن هش، قاتل ومقتول في آن، يحيا حياة خاوية لا تشبه الحياة.
الجسد كأداة والعمر كرشوة: مفارقات الصفقة الدموية
الجسد- في هذا السياق- لا يعود مستودعًا للذات، بل أداة تفاوض؛ حقل معركة تُدار عليه صفقات الموت. إن تمثيل الحزام الناسف حول "الوسط" ليس محض تفصيلة تقنية، بل يحمل دلالة رمزية عميقة؛ الجسد مُقسَّم، موصول بأداة فنائه، ومُراقب من الداخل والخارج، فلم يعد ملكًا لصاحبه، بل أُعيدت برمجته ليصير ملكًا للصوت.
ومن جهة أخرى، يتحوّل الزمن– هذا العنصر الذي يُفترض أنه محايد – إلى بضاعة. ثلاثون ساعة، ست وثلاثون، يومان... كلها تُمنح مقابل القتل، فيتحوّل الزمن من نعمة الوجود إلى رِشاء معلّق فوق هوّة العدم، لا يطيل الحياة بل يؤجل حتفًا محسومًا.
لكن على الرغم من كل هذا القسر، إلا أن لحظات محددة في الرواية – قد تكون صمتًا، أو نظرة، أو حتى شكًا عابرًا – تمثل نوافذ للمقاومة. ليست مقاومة بالصوت أو بالسلاح، بل مقاومة معرفية: إدراك ما يحدث.
وهنا تكمن القيمة الحقيقية للرواية كخطاب: لا في الحكاية، بل في كشفها لميكانيزمات القهر الخفي، في تقديمها للذات ككائن مأزوم، لا يجد خلاصه إلا في الوعي بحاله. والوعي، في هذا السياق، يصبح أداة تفكيك، لا للخلاص فقط، بل لإعادة تعريف الذات.
الانفصام بين الذات والفاعل: من أكون حين أُجبر؟
السؤال الذي يتسرّب خفيًا في الرواية: هل البطل قاتل أم ضحية؟ وهل الطاعة تحت القسر تبرر الجريمة؟ أم تكشف تواطؤًا داخليًّا؟ لا تمنح الرواية أجوبة، بل تكشف انهيار الهوية، حين يُحتلّ الوعي عبر خطاب قمعيّ.
الشخصية الرئيسة تحاول أن تفكر وتحتج، لكنها لا تملك صوتًا مستقلًا؛ "فالصوت" يستلب إرادتها. في هذه الثنائية، يتحول الخطاب الداخلي إلى شظايا مقاومة مقموعة. هذا التصدّع بين الأنا والآخر– حين يسكن "الآخر" في رأسك – يُظهر كيف يمكن للخطاب أن يصبح استعمارًا داخليًا. في هذا التمزق تحضر مفاهيم ميشيل فوكو حول السلطة الحيوية، ولاكان حول "الآخر الكبير"، وسارتر حول الجحيم كوجود مراقَب. فالرجل لا يعيش فقط تحت التهديد، بل في ظل بنية خطابية تفرّغ اختياراته وتعيد تشكيل ذاته من الداخل.
وحين ينحر حارس المستشفى، لا يبدو الفعل فعل قتل، بل طقس عبور، مثل مَن يمرّ عبر بوابة نحو مرحلة جديدة من اللاعودة. لكن هذا العبور لا يمنحه ذاتًا جديدة، بل يفقده المزيد منها، ويغرقه أكثر في تشظّي الهوية. أصبح القتل مجرد قسط يُدفع لضمان لحظات أخرى من اللاوجود.
ومع كل خطوة يتماهى البطل أكثر مع منظومة العنف التي يرفضها، عالقًا في سؤال لا إجابة له: هل للفرد قدرة على كسر الدوامة، أم أن المصير محتوم؟
كرة الموت: عبث النجاة عبر الإبادة
تُعيد الرواية بناء صورة عبثية للنجاة عبر "كرة الموت"، حيث على البطل أن يلقي بالموت إلى آخرين ليحيا يومًا إضافيًا، "بموت أحدهم أحيا أنا، ولكن إلى متى؟" يتحول البقاء هنا إلى فعل تدمير ممنهج؛ فكل محاولة للنجاة ترتكز على إزهاق حياة آخر.
من خلال المونولوج الداخلي للبطل: "إذا كنت أريد أن أعيش ليوم آخر، عليّ أن أرمي بكرة الموت إلى شخص آخر"، يتجسد مفهوم فلسفي حاد: البقاء نفسه مرهون بتدمير الآخرين. هنا، يتحول الدفاع عن الحياة إلى تمجيد لفعل القتل كوسيلة وحيدة للنجاة، مما يكشف كيف يمكن للخطاب القهري أن يُحرف حتى أبسط الغرائز (غريزة الحياة) نحو تدمير الآخر.
وفي هذا العبث يختفي معنى الحياة ليحل محله وهم التأجيل. خطاب الرواية هنا يعري المنطق الداخلي للأنظمة التي تؤسس بقائها على إقصاء الآخر وقتله، ويظهر كيف يتم إنتاج القتلة عبر آليات يومية تفرض الاختيار القسري بين القتل والموت. كما أن كرة الموت ليست فقط وسيلة للنجاة الجسدية، بل معادل رمزي لفقدان المعنى، والعزلة الداخلية المتزايدة مما يفقده ذاته. ففي واحد من أكثر المقاطع قوةً وتأثيرًا، يسرد البطل مونولوجًا داخليًا يقول فيه:
"فبموت أحدهم بمسدسي أحيا أنا... ولكن إلى متى سأستمر على هذا الحال؟ أمشي بصحبة الموت... لا أستسيغ الطعام ولا أهنأ بالنوم." هذ المونولوج يكشف عن جوهر الصراع؛ آلة قسرية لإنقاذ نفسه، لكنها تفقد كل معنى للعيش.
الفلسفة الضمنية للرواية تشبه إلى حد بعيد فلسفة العبث عند كامو، حيث يسلط الضوء على عبث الحياة في ظل قوة قاهرة لا مهرب منها. فتتشكل الرواية كمنظور عميق حول الثمن الوجودي للنجاة حين تتحول إلى تدمير الآخر.
إشكالية الذنب وتفكيك مفهوم المسؤولية
عندما يبرر البطل أفعاله قائلًا: "هذه مشيئة الله، ولا يحق لأحد أن يلومني." هنا تتبدى آلية خطابية تُبعد المسؤولية عن الذات، وتلقيها إلى قوى عليا، مما يؤدي إلى إلغاء المسؤولية الأخلاقية للفرد. هذا التبرير الديني أو القدري يُساق لتغليف العنف المشيئة الإلهية؛ حيث لا يُنْظّر إلى الانتحاري كفاعل، بل كمفعول به يدفعه القدر للقتل. لا يقدم البطل نفسه كمجرم بالمعنى البسيط، بل كتجسيد لضحايا خطاب القوة الذين تتحول أجسادهم إلى أدوات قهر. تكشف الرواية أن أسوأ ما قد تفعله السلطة بالإنسان ليس أن تسلبه حياته، بل أن تسلبه صوته، وتحوله إلى آلة قتل لتبرر حقه المهدور في الحياة.
هنا يطرح النص تساؤلًا عميقًا: هل يمكن للإنسان أن يحتفظ بإنسانيته إذا أُجبر على الاختيار بين القتل والموت؟ الرواية تقدم إجابة مأساوية: في لحظة يُجبر فيها الإنسان على الانقياد لمشيئة لا تفهمها إرادته، يتفكك الإنسان ويُحرم من ذاته.
من خلال المونولوجات الداخلية، يُظهر البطل الاغتراب الجذري الذي يعانيه حين تُسلب إرادته ويُعاد تشكيل وجوده كأداة للقتل، ليحل مكان "الذات" التقليدية كائن مشظى، يؤجل نهايته بالقتل، بينما يتنفس الموت.
الحرية الفردية والمأزق الأخلاقي
نظرة البطل إلى عالمه مليئة بالتعاسة والقلق الوجودي. يطرح تساؤلات حول قيمة حياته في عالم يفقد فيه الإنسان إرادته لصالح السلطة. ولكن، في الوقت ذاته، تتداخل مسألة الحرية مع مسألة الأخلاق: هل يمكن للإنسان أن يتحرر فعلاً من قيود السلطة، أم أن خضوعه لها هو جزء من طبيعته الإنسانية؟ من خلال قراءة النص، نلاحظ كيف يحاول البطل التمسك بالحرية عبر اتخاذ قرارات مفاجئة، مثل محاولاته لمراجعة الفعل الذي عليه القيام به، إلا أن السلطة تأخذ منه هذه القدرة في اللحظة التي يريد فيها التحرر.
عند تتبع البطل لمهام القتل، يتضح لنا أن الوجود في ظل العنف لا يعيد بناء الحياة، بل يعزز من انعدام المعنى والفراغ الوجودي. هذا يظهر في مونولوجه الداخلي: "إنني أموت في كل يوم ألف مرة منذ أن قرر الحزام مرافقتي". هذا التعبير ينم عن حالة العدمية الوجودية، حيث يفقد البطل جميع معالم الحياة، ويجد نفسه محاصرًا في دوامة العنف التي تُلغي شعوره بالذات وبالوجود ذاته.
المرآة السوداء: خطاب الفناء كتمثيل لمجتمع مأزوم
الرواية لا تقدّم شخصًا فقط، بل تُمثّل عبره مجتمعًا. والصوت الذي يلاحقه ليس مجرد تجريد للسلطة، بل محاكاة لآليات القهر في الواقع اليمني والعربي، حيث تُستخدم الخطابات الدينية والرمزية لفرض سلوكيات مدمّرة باسم النجاة أو الطاعة. الحزام الناسف هنا ليس سلاحًا إرهابيًا، بل استعارة كبرى عن الحياة حين تُفرَض شروطها علينا من الخارج، ونُجبر على توقيع "صفقات" يومية لتأجيل انفجارنا.
الفضاء السردي في الرواية مغلق، وخانق، ومتوتر، كأن الرواية كلها تُكتب داخل غرفة ضيقة محشوة بالبارود، فلا أسماء، ولا شوارع، ولا ملامح واضحة؛ كل شيء قابل للانفجار. هذه التقنية تؤكّد المفهوم الفلسفي للرواية: الوجود لا يُمنح بل يُنْتَزع، والذات لا تتكوّن بل تُراوغ التلاشي. اللغة أيضًا اختزالية، مقتصدة في الوصف، ما يمنحها شحنة كثيفة، مثل نبضات قلب من يخشى أن يكون كل نفس هو الأخير. لا سردٌ متراخٍ، ولا مساحات أمان؛ بل لغة تعكس الاختناق.
الاستعارة القصوى: الحزام كقيد ذهني وجسدي
الحزام الناسف في الرواية يتجاوز كونه أداة تفجير ليصبح رمزًا متعدد الطبقات؛ فهو تمثيل مركّب لمستوى أعمق من القيود: النفسية، والاجتماعية، والسياسية. في ظاهره هو قيد قاتل، لكن في باطنه يمثل انعدام الفكاك من سلطات غير مرئية.
في هذا التشكيل الرمزي، يصبح الحزام معادلًا موضوعيًا للقسر المعاصرة:، كالضغوط الاقتصادية، أو النظام الأبوي القاسي، أو الخطاب الديني المتشدد، حيث يصبح الجميع في موقع "المجبر" الذي يعيش برئة مفخخة.
وهو يفرض على البطل نظامًا أخلاقيًا مقلوبًا، حيث يصبح القتل واجبًا لا مفر منه لضمان البقاء المؤقت. "نحن من يقرر من يستحق الموت، وما عليك إلا التنفيذ" هكذا تتجسد السلطة المطلقة: سلطة لا تمنح التفسير، بل تطلب الطاعة العمياء. نرى هنا تفكيكًا لآليات السلطة التي تصادر القرار الأخلاقي، وتحول القيم الإنسانية (كالرحمة، والحياة) إلى أدوات قتل مبررة باسم النجاة أو الطاعة. الصوت يحرم البطل من أية إمكانية للاختيار، ويقوده إلى استبطان خطاب القهر، حتى يصبح هو ذاته حارسًا لهذا القهر في داخله.
إن المقاومة للموت عبر القتل لا تؤدي إلى النجاة، بل تعيد إنتاج الموت بطرق نفسية وروحية، فالصوت يصبح رمزًا للسلطة الخفية التي تصادر الهوية الإنسانية وتغرس اغترابًا عميقًا في الذات، والبطل يتحول إلى حارس للقهر الداخلي لا يملك القدرة على الخروج من دوامة العنف.
الوجود والموت: لعبة القدر في يد الأقدار
الرواية تقدّم تصوّرًا فلسفيًّا معقدًا عن العلاقة بين الوجود والموت، حيث لا يواجه البطل الموت وحده، بل يواجه تدميرًا للإنسانية الداخلية. فكل مهمة ينفذها البطل تقتطع جزءًا من روحه، مما يخلق صراعًا داخليًّا مريرًا بين الرغبة في البقاء والشعور العميق بالذنب.
إن العيش في ظل تهديد مستمر بالموت يعكس حالة من العدمية الوجودية؛ فهل يصبح الموت جزءًا من الحياة؟ هل يدمج الإنسان الوجود والموت في عملية واحدة؟ في هذا السياق تتلاشى الحدود بين الحياة والموت، وبين القرار الشخصي والإجبار الخارجي، مما يطرح تساؤلات عن قدرة الإنسان على إيجاد معنى لحياته في عالم ملئ بالعبث.
المونولوج الداخلي: الولادة الثانية تحت الظلام
تصل الرواية إلى ذروتها في هذه اللحظة الفارقة التي يكشف فيها البطل عن أزمة هويته الداخلية والخارجية في آن واحد، عند مواجهة الموت المحتم مع والدته في المصعد. هنا ينفتح أمامنا مونولوج داخلي بالغ العمق:
"أفكر أن أقول لهم من باب الاحتمالات: تخيلوا من سيصدق أنني ألبس حزاما ناسفا سينفجر بعد ساعتين رغمًا عني..." هنا تنفجر أزمة الهوية بأعلى صوتها: "تخيلوا، من سيصدق أنني ألبس حزامًا ناسفًا سينفجر رغمًا عني؟"
هذه اللحظة تعكس الانفصال العميق بين الذات الداخلية للصوت، وما تراه عين الآخر من الخارج؛ فالهوية لا تُفهم ولا تُغفر، بل تُفرض كصورة قسرية قد لا تعكس الحقيقة، ويصبح البطل محاصرًا بين معاناته الداخلية والنظرة الخارجية التي تقيده. فتتسع الهُوّة بين الذات وصورتها المفروضة من المجتمع، لتتحول الهُوية إلى عبء مُرعب، كأنها مسلخ حقيقي. تعكس هذه اللحظة مفهوم الفلسفة الوجودية، التي ترى أن الهوية ليست ثابتة، بل هي عملية تأويل مستمرة تُفرض من قوى خارجية، مما يجعل الانفصال عن الذات بمثابة قدر لا مهرب منه.
في هذا المونولوج، يتعرى الوعي تمامًا. ففي مواجهة هذا الصراع الداخلي، يجد البطل نفسه في مواجهة مع أخلاقيات الاختيار: هل من المقبول التضحية بحياة أخرى من أجل إنقاذ الآخرين؟ أو هل ستظل هذه الخيارات مُشوّهة بالخطيئة؟ الخطاب السردي يتقاطع هنا مع مفاهيم مثل "الخطيئة الأولى"، و"قتل القريب"، و"ذنب الناجي"، وكلها مفاهيم فلسفية عميقة تضيء النص دون أن تبتذله أو تحوله إلى خطاب وعظي، مما يجعل الرواية ليست مجرد صراع للبقاء، بل اختبارًا أخلاقيًّا عميقًا يطرح تساؤلات فلسفية حادّة حول الوجود والمصير.
خدعة الموت المقدس ومأساة التضحية المزيفة
مع توالي الأحداث، يكتشف البطل أن الجماعة التي تسيطر عليه لا تستخدمه لضرب أعداء كبار أو لإحداث أثر سياسي، بل فقط لاستنزاف القوة العسكرية الوطنية عبر قتل الجنود البسطاء الذين يحاربون الإرهاب. هنا تنكشف الخدعة الكبرى: الموت الذي يقدم كقيمة مقدسة، ما هو إلا خديعة دموية تخدم أجندات قذرة. يتحول البطل إلى عجلة صغيرة في ماكينة أكبر لا ترى الضحية إلا رقما، ولا ترى القاتل إلا أداة.
الهروب من القدر: الانفصال عن المجهول والسعي للمغفرة في عالم مفكك
تصل الرواية إلى ذروتها في مشهد النهاية الغامض الذي يثير العديد من التساؤلات الوجودية الفلسفية، حين تنتهي رحلة البطل بإدراك مأساوي؛ أنه ليس فاعلًا في مسرحيته الخاصة، بل مجرد دمية تُحركها أيادٍ خفية. فاختفاء البطل ليس مجرد مغادرة جسدية، بل هو لحظة من الخلاص الرمزي الذي يثير تساؤلات حول معنى الخلاص والهروب. فهل الهروب هنا يعني التحرر من الجحيم الداخلي؟ أم أن الخلاص يكمن في مواجهة الذات والذنب بشكل كامل؟ الأسئلة تُفجّر الصراع الأساسي بين الفرد وهويته، بين رغباته الداخلية وضغوط القوى الخارجية التي تتحكم فيه.
تختم رواية حزام ناسف رحلتها دون أن تمنح القارئ خلاصًا تقليديًا أو انتصارًا أخلاقيًا واضحًا. بل تتركه أمام الحقيقة العارية: في عالم ملئ بالعنف، قد يصبح الإنسان أداة في يد قدره، ويفقد حتى الحق في أن يُسمع صوته. مع ذلك تبقى الرواية بمثابة دعوة عميقة للتأمل في العلاقة بين الحرية والموت، والوجود واللا وجود، وتطرح تساؤلات حادّة حول ما إذا كانت الحرية خيارًا حقيقيًّا في عالم ملئ بالعنف.
في النهاية، الرواية لا تقتصر على تصوير الإرهاب، بل هي نقد للخطاب الذي يعيد إنتاج القهر. فهي صرخة مكتومة ضد اختزال الإنسان في مُنفّذ أو في جسد يُراقَب. وهي أيضًا تثير تساؤلًا: ماذا لو كنا جميعًا نرتدي أحزمة، لكننا لا نراها؟