فصام اليمن في رواية ابنة سوسلوف فصام اليمن في رواية ابنة سوسلوف

رياض حمَّادي

من المعلن إلى المضمر

صدرت رواية "ابنة سوسلوف" لحبيب سروري، عن دار الساقي ودخلت القائمة الطويلة لجائزة البوكر للرواية العربية عام (2014). وهي في ظاهرها: حكاية تجمع بين عمران وفاتن، مراهقين عدنيين تجمعهما علاقة حب بريئة. يفرقهما سفر عمران إلى باريس وهروب فاتن إلى صنعاء واتخاذها اسمًا آخر هو "أمة الرحمن"، وهوية سلفية مناقضة لحياة الانفتاح والمدنية التي عاشتها في عدن.

يلتقي المراهقان في صنعاء بعد سنوات في علاقة جسدية هذه المرة وفي ظل تكتم شديد فرضته ظروف زواجها من الشيخ عمر ابن الإمام محمد الهمداني الذي تجمعه بها علاقة محرمة. وفي ظل مستنقع الحياة المزدوجة، التي تعيشها أمة الرحمن، يحاول عمران انقاذها لكي يعيدها إلى صورتها الأولى البريئة؛ قبل أن تهربها ابنة الهمداني إلى صنعاء. وضمن هذه الحكاية ترصد الرواية مظاهر الرجعية التي طرأت على عدن بعد استباحتها من قبل قبائل الشمال وسلفييه، والانتكاسة التي حلَّت بالشخصيات بعد حرب 1986 وحرب 1994.

هذا هو الخط الرئيس للحكاية، لكن ما بين سطور الرواية نسق ثقافي أهم وهو مضمر بطبيعته ويتطلب جهداً تحليلياً للكشف عنه. هذا فيما يخص البعد الجنسي الرمزي في الرواية التي لها أبعاد أخرى مباشرة، كتناولها بالنقد اللاذع الأوضاع السياسية والدينية والاجتماعية ورموزها في اليمن الجنوبي والشمالي وفي ظل الوحدة.

عدن المرأة والمدينة

يمكن إيجاز النسق الثقافي المضمر في الحكاية في بعد رمزي يرى في شخصية ابنة سوسلوف (فاتن)، وهروبها إلى صنعاء، رمزاً لعدن ومدنيتها التي ساهمت حرب 1986، والمد السلفي، ثم حرب 1994 في تحويلها إلى السلفية (أمة الرحمن). فيما تُجسِّد شخصية عمران دورين متناقضين تجاه أمة الرحمن، هما الحب والكراهية. فمن خلال محاولته إنقاذ أمة الرحمن من براثن السلفية والرجعية، يُعدُّ رمزاً لابن عدن الحالم باستعادة مدينة صباه ومدنيتها الفاتنة، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، يحمل سفر عمران من جنوب اليمن إلى شماله، وعلاقته الجسدية مع أمة الرحمن، صورة للانتقام شبيهة بهجرة مصطفى سعيد- بطل الطيب صالح في رائعته "موسم الهجرة إلى الشمال"- إلى لندن وفتوحاته الجنسية التي ينتقم بها من غزوات الإنجليز على وطنه السودان. تناقش رواية الطيب العلاقة الجارحة بين الشرق والغرب، وتناقش رواية سروري العلاقة نفسها بين شمال اليمن وجنوبه. وما فعله عمران، في دور الكراهية (اللاواعي)، يمثل غزواً مضاداً وحرباً روحية، فيما تمثل الرواية حرباً ثقافية، ففيها من الشواهد ما يدل على هذا النسق الحربي، بدءا من التصدير الذي اقتبسه عن رامبو: "الحرب الروحية لا تقل شراسة عن معارك الفرسان" (ص 7). إلى فصل الختام الذي ورد فيه اقتباس عن (سان تزو)، مروراً بكثير من العبارات التي تدعم هذه الرؤية.

يمكن أن نرى في مقولة رامبو السابقة دلالة رمزية على نوعية الحرب التي شنها الشمال- بشقيها العسكري والديني السلفي المتطرف- على ثقافة الجنوب المدنية المنفتحة، ودلالة أخرى على نوعية الحرب (الثقافية-الجنسية) المضادة التي شنها عمران على صنعاء. تلك الحرب التي تدعمها مقولة الصيني (تزو)، في كتابه "فن الحرب": "يكمن فن الحرب في هزيمة العدو دون مواجهة، دون أدنى خسارة، دون قطرة دم!" (ص 211). غير أن عمران يمارس حربًا ضد جزء منه، ولعل هذا هو الفارق بينه ومصطفى سعيد.

وبين هاتين المقولتين (الحربيتين) تتضمن الرواية كثيراً من العبارات التي تتعالق معهما دلالياً. منها وصف عمران لطبيعة العلاقة المتناقضة بينه وأمة الرحمن والقائمة على "عشق مضطرم كثيف، وحربٌ روحية صامتة!". فالعشق مضطرم؛ لأنه بين جسدين، والحرب روحية صامتة؛ لأنها "بين موقعين فكريين لا يجمعهما جامع". ونتيجة هذه العلاقة الفصامية "يتحول عدوي الروحي إلى توأمي الجسدي" كما ورد على لسان عمران (ص 82).

ومن شواهد مشاعره المتناقضة تجاهها، يقول عمران: "أُعجب بها مع كل ذلك، وأحبها (أعشقها في الحقيقة) وأشفق عليها أكثر فأكثر، أخافها وأكرهها أيضاً... الحق أنني لا أستطيع هجر هذه الجنية، رغم كل ذلك!... أعشقها فعلاً بكل تفاصيلها اليومية الصغيرة، بجمالها وجنونها وصهارة بركان تناقضاتها. هي تراجيدية حياتي الجديدة، هاويتي وكل دوخاتي!" (ص 86 و 106). هنا يصف حياته بالجديدة، مع أنه يعيش تناقضاً بين حبه الروحي لنجاة- زوجته التي قضت في تفجير إرهابي في باريس- وعشقه (الجسدي) لأمة الرحمن المتضمن رغبة في الانتقام. فعلاقته بها مُوجَّهة من قبل دافعين اثنين: العشق والحقد. فهو يبحث في أمة الرحمن عن ذاته الأولى (فاتن)، أو كما يقول: "عن جذور غائرة عميقة، أو ربما عن قاتلة نجاة، لا أكثر أو أقل، قاتلتي". وحين نعرف أن علاقته بفاتن لا تتعدى نظرات طفولية بريئة في دكان الأعمى، ندرك أنه يبحث فيها عن عدن لينتقم لواقعها المرير. لذلك نراه يسأل عزرائيل، بأسلوب تقريري، أكثر منه استفهامي: "أحقاً أن كل عشق هو ملئ فراغ ما، انتقام من شقاء لا علاج له؟" (ص 91).

صور الانتقام والهروب

وعمران ينتقم لعدن من السلفيين ولفاتن ونجاة من أمة الرحمن (الداعية الصنعانية) التي جعلت أخته، "المدججة بأكبر الشهادات العلمية في الطب والماركسية اللينينية... مهووسة بالأدعية والسنن القَبْلية والبعْدية، هي التي كانت مهووسة بالمادية الديالكتيكية والمادية التاريخية عندما كنت أنا (الداعي) في الصغر" (ص 74). فالنكوص في شخصية أخته يُشعره بفشل تربيته المدنية لها عندما كانت صغيرة. وبهزيمته من قبل "داعية صنعانية ظلامية ممن يباركون ويديرون التفجيرات الإرهابية" تحولت لياليه إلى كوابيس، وحياته إلى مستنقع وإلى "حقد دفين يتضاعف!..." (ص 74).

وأمة الرحمن تنتقم من زوجها الذي "تكرهه بضراوة. وتنتقم منه في كل لحظة. وسعادتها الكبرى: الانتقام الدائم منه! فكل لحظات حياتها، كل ما تفعله في الحقيقة، انتقام مركب" (ص 94). ولأن "فلسفتها الانتقام، وحياتها انتقام دائم من هذا بذاك" (ص 99)، نراها تنتقم من زوجها، كلما أمرها بالعودة إليه، بأن تدعو عمران "لحمل مرايا الشقة ووضعها في أماكن مختلفة من السرير، وذلك لممارسة بعض الأوضاع الغرامية التي كانت تبدو لها صعبة مستحيلة، لا تطيقها، وتفضل تأجيلها على الداوم!..." (ص 99). ويستكمل عمران وصف هذا المشهد قائلاً: "تنتقم منه بضراوة، تغمرني بلذتها بعنف، تنتقم، تزداد شهوتها، تنتقم... وحده الانتقام منه يغمرني بتلك النصف ساعة من اللذات الجديدة العاتية ويُضفي على عشقنا المحموم هاوياتٍ وأبعاد جديدة أتمناها دوماً بلهفة ضارية!" (ص 100). ويقول: "لعل أمة الرحمن تهرب بكل بساطة إلى فردوس عشقنا الرقيق الناعم لنسيان شيء ما، عنف ما، اغتصاب ما... تنتقم من شيء لا أعرفه... لكأن السلفية عندما تمارس العشق تنتقم من كل المحرمات والكبت والحواجز..." (ص 101 و 125).

وتبدو علاقتهما الجسدية نوعاً من الهروب. هي تهرب من ماضي حياتها المضطربة (في عدن) أملاً في حياة أفضل (في صنعاء)، كالمستجير من رمضاء الماركسية بنار السلفية. وهو يهرب من ذكرياته، لكن إلى نعيم باريس. يقول عمران: "ازدادت رغباتنا خلال تلك البروفات الفردوسية بالالتحام الجسدي الطويل الناعم، وبالهروب من تراجيديات حياتنا بالغرام الملتهب. كلانا كان بحاجة عضوية مستأصلة إليه، في حياته الثانية التي رماه فيها قدرٌ غادر" (ص 96).

وأمة الرحمن، تفر من آثار نفسية خلَّفَها اغتصاب زوجها في ليلة العرس، ومن "أزمات نفسية وضعف جراء إهمال أبويها لها وانشغالهما... في صراع يوميّ لا هوادة فيه، فلم يعد لها حلم آخر غير الهروب بعيداً إلى الجحيم!...". وهي بذلك تكرر سلوك والدتها (فيروز) التي انتقمت من زوجها (سالم) بإقامة علاقة مع عدوه اللدود (أحد أهم القادة السياسيين)، الأعلى منه مرتبة والأكثر شيطنة" (ص 56، 137).

عدن قبل ارتداء النقاب

وعمران ينتقم أيضاً لعدن، المدينة المنفتحة التي حولها السلفيون إلى مدينة منقبة. وفي الرواية فقرات توضح الردة الثقافية التي صارت إليها عدن بعد الوحدة وحرب 1994. يقول عمران مخاطباً ملك الموت ومعبراً عن حال المدينة قبل الغزو: "كانت الحياة العدنية يومها، عزيزي قابض الأرواح، تميل إلى المدنية والحداثة: المرأة تلبس الملابس المدنية، تتعلم، تعمل، تساهم في أعلى القيادات... التعليم مختلط. الكتب، لاسيّما (التقدمية والثورية)، في كل مكان... يضبط الحياة الاجتماعية قانون مدني متقدم يعطي المرأة حقوقاً هامة ملموسة... الأعين تنفتح على الحداثة. كل جديد في العالم يجذب الناس... كان هناك مثلاً مصنع وطني للبيرة: مصنع (صيرة)... وكان من الحداثة بمكان، ومن السهل جداً، احتساء الكحول في بارات المدينة بِحُرية" (ص 52).

ثم يعرض نموذجًا يمكن أن نرى فيه انتقادًا للمفهوم السطحي للحداثة عند بعض الأسر العدنية، لكنه مثال يبين مدى الانفتاح الذي كانت عدن قد بلغته. يقول: "ثمة في بعض الأحيان مثلاً، صدِّق أو لا تصدق عزيزي لاطش الأرواح، عائلات محترمة جداً كانت تعتقد أن من الحداثة بمكان أن تشاهد، بعد وجبات دعوات الغداء أو العشاء، فيلماً إباحياً معاً، صغاراً وكباراً، كما يفعل الناس في الدول المتطورة (حسب اعتقادهم!)" (ص 53).

وكانت عدن، أحد أهم موانئ العالم، ممتلئة "بالهنود والأفارقة والأوروبيين وببشر طيبين من كل أرجاء اليمن. مدينة سفن وبحارة. حضن لكل الهاربين من أوجاع الحياة. تخرج من أسفل بحرها، كما تقول الأساطير، دهاليز تربطها بأقصى الشرق والغرب. مشروع عاصمة أممية... رغم كل أوجاعها وإخفاقاتها ظلَّت بؤرة الأمل لكل من أراد الهروب من تعاسة العالم واللجوء إلى الحلم..." (ص 202).

لكن عدن الواقع والحلم تحولت إلى مدينة "تخنقها عصابات (عنف بالعنف) في فجر السبعينات، تزلزلها وتسحقها في يناير 1986. وتهجم عليها في 1994 أبشع العصابات القبلية والظلامية والجهادية لتنهبها ببشاعة وحقد، وتمحق ما بقي فيها من مدنية ورقّة وأمل. تبطحها بالضربة القاضية" (ص 203). وعدن "فنار الاشتراكية العلمية، في سبعينيات وثمانينيات العالم العربي"، ارتد فيها الإنسان الثوري، "تحت المد السلفي الظلامي... إلى إنسان آخر: مهووس بمجيء المهدي المنتظر!..." (ص 123 وانظر أيضاً ص، 64، 67، 68، 69، 154).

انتقام عمران يأتي ردًا على انتكاسة شخصية أخته سمية التي كانت "ثورية، حزبية ماركسية لينينية مرموقة، وهي في ريعان المدرسة الإعدادية والثانوية!... كانت ناشطة ثورية نسائية مرموقة، لبست (الميني جوب) في ثانويتها". لكن عندما وصل إلى شقتها، في صيف 1996، صارت "امرأة أخرى. طبيبة مرموقة بنقاب طالباني أسود كثيف. تصلي ركعات صلاة الضحى والوتر وسنناً قبلية وبعدية لا تُعد ولا تحصى. كل جدران غرفها وأبوابها مطرزة بأدعية مكتوبة بخط يدها: دعاء السفر، دعاء العودة من السفر، دعاء قرع الباب، دعاء الدخول من الباب، دعاء الخروج من الباب، دعاء المطبخ، دعاء وضع الحذاء، دعاء خلع الحذاء، دعاء اللوز والفستق، دعاء الفيمتو، دعاء الذهاب إلى سرير النوم، دعاء طرد الكوابيس، دعاء الكوابيس..." (ص 70).

مثال آخر على النكوص الذي أصاب الشخصية العدنية بعد الغزو السلفي، يتمثل في سالم– أو سوسلوف، نسبة إلى ميخائيل سوسلوف، مسؤول الدائرة الأيديولوجية في الحزب الشيوعي السوفيتي سابقاً– الذي درس الماركسية اللينينية في موسكو، وعُيِّن رئيساً للمدرسة العليا للعلوم الماركسية اللينينية في عدن.

كان سالم "قيادياً من الطراز الرفيع، ودونجوان من الطراز الأرفع أيضاً... ويجيد الربط الديالكتيكي بين النظرية والممارسة!... كان نشيطاً لبقاً ناجحاً... كان لطيفاً جاداً، ماهراً في كل أنواع الحديث: من النكتة (كان موسوعة نكت) إلى التنظير السياسي... المنظر الماركسي اللينيني الرسمي بامتياز... المؤدلج الرسمي الذي لا يمل الحديث عن (سمة العصر)... " (ص 14، 53، 54، 55).

لكنه بعد الحربين صار "رجلاً يعبر وحيداً في ركن شارع، لا يهمه إلا أن لا يعرفه أحد، فَقَدَ كل أُبّهته... فقد بريق عينيه، نظراته ترابية خافتة تغيب في فراغ، لا ينبض فيها غير القلق والخوف من شيء ما...". وعندما عرّفه عمران بزوجته نجاة "التي مدت يدها بشكل طبيعي لمصافحته. اعتذر عن مصافحتها قائلاً إنه متوضي!". يتعجب عمران لهذا "التقلب من أقصى الإلحاد الماركسي اللينيني المدوي إلى أقصى التظاهر الشكلي والتشدق الصارخ وغير المهذب بالدين" ويعلِّق مندهشاً: "رئيس المدرسة العليا لعلوم الماركسية اللينينية في عدن يرفض مصافحة زوجتي حتى لا ينقض وضوءه..." (ص 65).

النموذج الأبرز للنكوص الفكري يتمثل في شخصية فاتن/أمة الرحمن. يخاطبها عمران وهما في حياتهما الثانية قائلاً: "شعرك كان في غاية الجمال في حياتنا السابقة في دكان الأعمى. لماذا تخفينه عن الناس وراء هذا المنديل الخانق؟". ثم يستعيد صورة وجهها في حياتها الأولى: "الوجه الإلهي الذي كان يواجهني ساعات طوال في دكان الأعمى، الوجه الذي كان يملأ سماء ليالي منامي في عدن قبل السفر إلى فرنسا..." (ص 134). وعندما التقاها في صنعاء وجدها "امرأة أخرى، غيرت اسمها ولهجتها"(ص 140) إلى لهجة صنعانية جبلية، و"كان على كفيها قفازان واقيان... وكانت مغطاة بحجاب كليِّ أسود ونقاب صارم لا تبدو منه إلا عيناها... (ص 72). فصارت بذلك "أفضل داعية إسلامية عرفتها اليمن، وخير زوجة يمكن أن يحظى بها (على سنة الله ورسوله) ابن كبير علماء الدين في اليمن وواجهتهم الظلامية الشهيرة، وإن كان الأب نفسه، الطامة الكبرى، أكثر المتعلقين بها (على غير سنة الله ورسوله)!" (ص 83).

ومن خلال علاقتها غير الشرعية بالإمام محمد الهمداني، تظهر أمة الرحمن شخصية سلبية مغتصبة من قبل الزوج وأبيه، وعاجزة عن فصم عرى هذه العلاقة- كلما طلب منها عمران ذلك- بقولها: "ماذا أعمل؟ لم يرضَ!" (ص 130). وفي اغتصابها رمز للجنوب المغتصَب بعد حرب 1994، ويأتي الحل مضمراً بقطع هذه العلاقة غير الشرعية بالانفصال.

رمزية الجنس والسقوط في الهاوية

الشخصية الروائية المُركَّبة من (فاتن- هاوية- أمة الرحمن) مُكوَّنة من عدة شخصيات واقعية. يمكن أن نرى في اختفاء فاتن من عدن وظهورها في منزل الشيخ الهمداني صدى لحكاية شهيرة، أثارت لغطاً، بطلتها (لينا)، ابنة أحد قيادات الحزب الإشتراكي. وتتمثل هاويتها في سوء علاقتها مع أسرتها واضطرابها النفسي، ثم اختفائها من عدن، في 1991، لتظهر منقبة في صنعاء، ثم العثور عليها مقتولة بالقرب من منزل الشيخ عبدالمجيد الزنداني. (انظر ص 137 إلى 140). لكن السارد يمد في عمر (لينا) الرواية لتتطابق، واقعياً، مع شخصية ناشطة حقوقية وثورية إخوانية تصدرت المشهد الاحتجاجي في اليمن عام 2011 (بدءا من ص 163).

وإطلاق اسم هاوية على فاتن يمهد للهاوية التي ستؤول إليها صاحبته. فصفاتها المتناقضة في بداية الرواية تؤكد ذلك، حين يقول عنها عمران: "كان جمال لمعة عينيها نافورة سعادة"، لكن "في نظراتها حزن ما، صمت مقلق" (ص 16). وتُعدُّ بذلك رمزاً للمرأة العدنية المنفتحة، وهاوية اسم يبشر بمستقبلها الذي سيحل في أمة الرحمن بسبب المد السلفي الشمالي الذي استغل اضطرابها النفسي وسوء علاقتها بعائلتها الماركسية. ورحلة المرأة العدنية من الجنوب إلى الشمال وما صاحبه من تحول في شخصيتها، يختزل ما حدث لعدن من تدمير ممنهج لكل أشكال الحداثة.

ويمكن اعتبار "هاوية" رمزاً للهاوية التي سقطت فيها دولة اليمن الديموقراطي. يقول عمران: "في أول زيارة صيفية لي، بمعية نجاة، إلى عدن، بعد حرب 1986، شعرت أن (اليمن الديموقراطي) قد وقع في هاوية بلا قاع. قرأتُ عليه الفاتحة!" (ص 63). وهروب (فاتن/هاوية) رمز لهروب الجنوب إلى الشمال، (عدن إلى صنعاء)، وهي هاوية؛ لأنه انتقال من جنة إلى جحيم أو من رمضاء إلى نار. يقول عمران: "ابنة مدير مدرسة الماركسية اللينينية تهرب من (اليمن التقدمي) إلى (اليمن الرجعي)!" (ص 63).

البعد الرمزي بين عمران وأمة الرحمن، يبرز أكثر عندما تختفي فاتن من عدن وتظهر في صنعاء باسم جديد وهوية أخرى، ثم في تحول آخر يحدث في شخصيتها حين تخلع النقاب مع بداية ثورة 2011. رمزية هذه العلاقة بشخصياتها المتناقضة فسرها عمران قائلاً: "في زقاق مظلم نتن تتضاجع فيه رباعية: الجنس الدين السلطة الثورة" (ص 201). وهو ما أدى إلى فشل الثورة والدين والسلطة السياسية في القيام بأي مشروع نهضوي.

الجنس في الحالة الرمزية، عنصر إلى جانب ثلاثة عناصر أخرى تهيمن على الحياة السياسية والدينية والاجتماعية، لكن للجنس في الرواية وجوداً حميمياً بين اثنين يجمعهما علاقة حب لا مجرد علاقة بين جسدين. مثل تلك العلاقة التي جمعت بين عمران ودينا، أو (الدكتورة) كما يحلو لها وصفها، ثم مع زوجته نجاة. لهذا السبب يمتنع عمران عن ممارسة الجنس مع مومسات السيسبان؛ لأنه جنس مقابل المال، والسبب الأهم هو غياب الحب أو العشق أو الانتقام.

نلاحظ أن العلاقة بين عمران وفاتن– وهما في عدن- بريئة، لم تتعد حدود النظرات، تحولت إلى علاقة جسدية مضطرمة وهما صنعاء، المقيدة بالكبت والرقابة الشديدة. والوازع الذي منع عمران، وهو مراهق، من تقبيل فاتن لم يكن وازعاً دينياً. يقول عمران: "لم أكن أتجرأ على عناق ذلك الوجه أو تقبيله، حتى في مخيلتي: ثمة رقيب حزبي لا يلين له قناة يرفع لوحة مكتوب عليها: (جدار بلانك)!... لم أجرؤ يوماً على ممارسة الرغبة في احتضان هاوية، أو مجرد تقبيل وجهها فقط، لأني كنت أخشى أن أكون مجرماً؛ منتهك ملكوت طفلة بريئة... ولأني بشكل خاص، في قضايا هموم الجسد وأشواقه، كنت أهرول مباشرة إلى أحضان الدكتورة!" (ص 17، 18). وفي ذلك دلالة تفيد بأن الانفتاح لا يعني الإباحية، مثلما أن الرقابة والتشدد لا يعنيان الأخلاق والتدين. وهو ما يقلب الصورة النمطية، عن المرأة في الجنوب وفي الشمال، رأساً على عقب.

وبتحليل الجانب السياسي في الرواية تكون عدن ضحية اغتصاب جماعي من قبل الماركسيين والسلفيين والقبَليين والثوريين. وفي محاولة انتشال أمة الرحمن من وحل صنعاء يعرض عليها عمران الانتقال معه إلى باريس. يقول: "حلمي اليومي: أن أجذبها للحياة معي هنا، في باريس. أن أطوف العالم معها وهي بدون نقاب أو حجاب، بساعدين طليقين، وبفساتين خفيفة حرة تضيء بها وتشعشع، ليسيل جمالها ورشاقتها ورقة بشرتها الطليقة في كل شوارع الكرة الأرضية" (ص 147). وكأنه هنا يقوم بمحاولات لاستخلاص فاتن من أمة الرحمن، وتنقية عدن من صنعاء، للحياة في نعيم باريس. لكن تمر الأشهر والسنين دون أن يقترب من تحقيق حلمه، خصوصاً بعد فشل ثورة 2011 ووقوع عصافيرها فريسة لثلاثة قوى: الدين والعسكر وفلول النظام السابق.

منشور في جريدة "أخبار الأدب" المصرية