
النزوح وتقنيات الكتابة السردية في رواية "سماء تمطر خوفًا"
عبده منصور المحمودي: كاتب وناقد يمني. أكاديمي في جامعة عدن.
في روايته "سماء تمطر خوفًا"([1])، يقدم الكاتب غسان خالد تسريدًا لعددٍ من الإشكاليات المتداخلة والمتشابكة، المتفاعلة فيما بينها. كما يقدم تسريدًا لما تفضي إليه هذه الإشكاليات، من عواقب وتداعيات. من خلال تعاطيه مع عددٍ من مظاهر الفساد السياسي في اليمن، التي أسفرت عن واقعٍ تمزّقه الصراعات والحروب، وما ترتب عليها من مآسٍ كارثية. لا سيما ما يتعلق منها بمأساة النزوح التي مثّلت موضوعًا رئيسًا في هذا العمل.
الحيز الروائي
يمتد الحيز الزمني السردي- في هذا العمل- من مطالع التسعينيات في القرن العشرين الفائت، إلى العقد الثاني من الألفية الثالثة. وقد أضاءت هذا الحيّز عددٌ من الإشارات السردية، مثل: الإشارة إلى الانتخابات النيابية([2])، التي أجريت عام 1993م، وعام 1997، والانتخابات الرئاسية([3])، التي أجريت عام 1999م.
كذلك، ما ورد من إشاراتٍ إلى موضوعاتٍ وأحداث متعددة،، ذات سياق تاريخي محدد، مثل: الإشارة إلى مناسبة صنعاء عاصمة للثقافة العربية([4])، التي تزامنت مع عام 2004م، والإعداد المبكر للاحتفالات الوطنية بالعيد الخامس عشر لإعادة تحقيق الوحدة اليمنية([5])، تلك الاحتفالات التي تم تدشينها في العام 2005م. والإشارات إلى الصراعات والحروب، مثل: حرب94([6])، وأحداث 2011([7])، والحرب الأخيرة([8])، التي اندلعت عام 2015م.
وتوزّع الحيّز الروائي المكاني، على أكثر من مكان. فهذه مدينة "صنعاء" تلوح حيّزًا مستوعبًا لعددٍ من أحداث العمل، بما هي عليه من خاصية اعتمادٍ على خشونة الرجال في قلب المعادلات([9]). وتظهر مدينة "عدن" حيّزًا لكثيرٍ من السياقات السردية، بما هي عليه من مفارقة بين حاضرها البائس وماضيها المشرق. ذاك الماضي، الذي يبعث الحنين، من خلال سماع حكاياتٍ، عادةً ما تُروى على لسان مَنْ عاش في تلك المدينة زمنًا من عمره، فيستذكرها بما يشبه يوتوبيا الأحلام؛ إذ كانت معروفة باسم "درة التاج البريطاني"، واشتهرت بمنتجات الثورة الصناعية ووسائل الرفاهية المرئية والمسموعة([10]).
كما كانت "تعز"- مدينةً وريفًا- جزءًا من الحيز الروائي المكاني، فاستوعبت عددًا من الأحداث، بما هي عليه من خصوصية مكانية، تجسّدت في عددٍ من الإشارات السردية. منها الإشارة إلى أجواء جبل "صبر"، في صباحٍ استثنائي، كان فيه كعادته منتصبًا حاميًا للمدينة، "نائمًا، يتمتع بدفء تحت قطعة ضخمة من الغيم الأبيض، لا شيء يستطيع إيقاظه سوى أشعة الشمس التي تبدو كسلة"([11]). كذلك هي الإشارة إلى المركز الإداري "العلاء"([12])، في إحدى مديريات محافظة تعز، والإشارة إلى إحدى قراها، التي تُشكّل الطبيعة فيها "بحرًا من الخضرة يموج في الوديان ويتسلق الجبل إلى قمته"([13]).
بُنية الشخصية الروائية
استهدفت سياقات هذا العمل تسريد حياة النزوح، وتداعيات المعاناة التي تمزّقت بها حياة شخصيّتين محوريّتين: "حسان الخالد"، و"راية صقراوي". وارتبط تسريد المعاناة وسياقاتها بإضاءة ما يعمل على إثرائها من حياة عددٍ من الشخصيات الثانوية، كشخصيات أسرة "حسان": أبوه "خالد"، وجده لأبيه "محسن"، وجدته لأبيه "هاجر"، وأمه "زهرة"، وخاله "سالم". ومثلها شخصيات أسرة "راية": أبوها "صقراوي"، وأمها "فتحية كيالي". وشخصيات أخرى، منها: السائق "شاجع"، والضابط "سلام الصاحي"، وابنة الصحفي "نحلة/ مارية".
خيوط الحكاية
عالج العمل- سرديًّا- موضوع الصراعات والحروب والنزوح في اليمن، من خلال تسريد حياة كلّ من "حسّان" و"راية". فانطلق من حياتهما الأولى، التي كانا يعيشانها مع أسرتيهما في مدينة "عدن"، ويتعلمان معًا في إحدى مدارسها.
ومع إحدى أزمات الصراع الشرسة وتداعياتها، قررت الأسرتان النزوح إلى إحدى القرى في ريف "تعز". وفي مدرسة تلك القرية تعلم "حسان" و"راية". ثم انتقلت "راية" مع أسرتها إلى المدينة، وتلقت فيها دراستها الجامعية للطب. وانتقل "حسان" إلى المدينة نفسها للدراسة الجامعية. ثم فرّقت بينه و"راية" الحرب الأخيرة، التي دفعت أسرتها مع عددٍ من الأسر إلى النزوح، والإقامة في إحدى المدارس الريفية. وحينما وصلت الحرب إلى تلك المدرسة، غادرها النازحون. وكانت وجهة أسرة "راية" مدينة "عدن". وصلت إليها، ثم قررت السفر منها إلى خارج البلد، فاستقلت زورقًا بحريًّا، كان الغرق في انتظاره، وفي انتظار اختطافه لحياة أب "راية" و"أمها"، والإبقاء على "راية"، التي نجت، وأُسعفت إلى المستشفى. وهناك عرف طاقم الأطباء من وثائقها مؤهلها ومهنتها في الطب، فعرضوا عليها العمل معهم. وافقت، واستمرت، حتى سيطرت بعض العصابات على المستشفى، فغادر الأطباء، ومنهم "راية" التي صار مخيم النازحين محل إقامتها الجديد. وفيه التقت ثانيةً بـ "حسان"، الذي وصل مرافقًا لخاله "سالم"، المسؤول في إحدى المنظمات، التي تقدم مساعدات غذائية للنازحين واللاجئين.
تسريد مأساة النزوح
عالج العمل صورًا من مأساة النزوح، لا سيما استفاضته في تسريد أحوال أسرة "راية"، وعددٍ من الأسر التي نزحت معها من مدينة "تعز" إلى إحدى مدارسها الريفية([14]). وما ترتب على ذاك النزوح من احتساء مرارة المأساة، التي كُثِّفت في حالٍ من أحوال "راية"، كانت فيها ساهمةً شاردة، تتأمل في واقعها بعد شهر من البقاء في مدرسة النازحين، ذهبت "تقلب الأفكار في رأسها وسط أجساد نساء وأطفال على الأرض كبضائع منتهية الصلاحية في مخازن المصانع. شهر من النوم على البلاط البارد، شهر بلا أغطية وبالملابس الممزقة نفسها التي يرتدونها، شهر بلا أحذية ولا هواتف، شهر بلا اغتسال، شهر والأتربة تضرب الأجساد، وتتنفسها الرئات، والشمس تلفح الوجوه. تجعدت ملامح الرجال، طالت شعورهم، كأنهم نُشروا على حبال ضخمة أسفل وهج شمس لا تغيب. تغيرت هيئات النساء، كأنهن يداومن على السباحة كل يوم في بركة من زيوت السيارات المستنفذة، وكأن السماء رشت أحماضًا حارقة على الأطفال"([15]).
لقد تنوّعت تفاصيل المأساة في مدرسة النازحين، التي عجزت فصولها عن استيعابهم كلهم. لذلك؛ فضل الرجال منهم البقاء في ساحتها. وهناك "ازداد عدد القبور التي يحفرها الأحياء للنوم داخلها، فتحات مستطيلة تنتظم في صفوف وأعمدة، بينها مسافات للمرور"([16]).
ولم تقف شراسة المأساة عند هذا الحد، بل وصلت إلى تجريع النازحين ويلات الحرب التي امتدت إلى تلك المدرسة؛ إذ لقي عددٌ من الأطفال حتفهم إثر سقوط قذيفة عليها؛ فكانت قبور آبائهم الأحياء قبورًا لهم، دُفنوا فيها، وغادر الآباء المكان.
النزوح تجربة إنسانية
وقفت السياقات السردية على النزوح بوصفه تجربة إنسانية، ذات تحوّلات فاعلة في تشكيل شخصية الفرد؛ إذ دربت هذه التجربة "راية" على التصالح مع الحياة، وعلى اقتلاع كيانها من تربة الحنين إلى الماضي([17]). كما أفضت هذه التجربة، إلى عددٍ من الرؤى في متغيرات الأزمنة والأمكنة. من مثل المفارقة بين بناء المنازل والهجرة القسرية منها: "تُبنى المنازل ليهجرها سكانها وتبقى وحيدة مستسلمة لشعور النهاية غير العادل"([18]).
كذلك هو الإدراك المتأخر لحقيقة النزوح، التي لا تمثّل نجاة لأصحابها، بقدر ما تمثّل انتقالهم إلى واقعٍ أكثر مأساوية: "مغادرة المنزل والنجاة بالأجساد ليست نجاة من مآلات الحياة التي تصنعها الحروب"([19]). ومثل ذلك، هو الإدراك المتأخر، لأهمية المنزل في حياة الإنسان، وفاعليته في المحافظة على هويته وكيانه: "وحدها المنازل مستودع الحياة، ستر وغطاء... فقدان المنازل طمس لوجود الإنسان وشطب لكيانه"([20]).
تقنيات الكتابة السردية
تعددت التقنيات السردية، وتنوعت في هذا العمل. منها ما كان نسقًا من النباهة، في صياغة العتبة الخارجية (العنوان): "سماء تمطر خوفًا"، التي لم ترد سوى مرة واحدة في متن العمل: "وهل هناك طريق آخر لا تمطر السماء فيه خوفًا"([21]).
ويُلاحظ في صياغة هذه العتبة نوعٌ من الحصافة في إزالة "أل" التعريف، من "سماء"؛ التماسًا للتفريق بين السماء الحقيقية، بما فيها من إحالات دينية وعقيدية، والسماء السردية الخاصة بالعمل، المحيلة على سلبيتها في إمطارها خوفًا. على غير ما هي عليه حال السماء الحقيقة من ماهية تحيل على إمطارها غيثًا وخيرًا. كما يحيل بعضٌ من حضورها السردي- في هذا العمل- على مقاسمتها الشخصيات الروائية الحزنَ والألم: "السماء تشاركهم البكاء"([22]).
وتوزعت مضامين الرواية على أقسامٍ بلغت 39 قسمًا. ويُلاحظ صياغة العناوين الداخلية بالأرقام، بدءًا بالرقم (1)، وانتهاءً بالرقم (39). وقد كانت هذه النوعية من الصياغة فاعلةً، في إضفاء نوعٍ من الانسياب والتماسك، في تسريد الأحداث وتقاطعاتها المختلفة؛ انتماءً إلى بُنية كليّة، في مضامين العمل وأفكاره المختلفة.
وعلى هذا التماسك- الذي أضفتْه عنونةُ أقسام العمل بالأرقام- إلّا أن السياقات السردية قد أفضت إلى نوعٍ من التوزيع لمضامين العمل؛ بناءً على محورية الشخصيتين ("حسان" و"راية"). لذلك؛ كان القسم الأول خاصًّا بحياة "حسان"، ومرويًّا على لسانه([23]). بينما كان القسم الثاني خاصًّا بحياة "راية"، ومرويًّا على لسان الراوي العليم([24]).
وبذلك؛ تنوع الضمير السردي، بين الحضور والغياب؛ حضور "حسان"، وغياب "راية". كما اتسمت هاتان المساحتان السرديتان- اللتان استوعبتا حياة هاتين الشخصيّتين- بنوعٍ من التمايز، في عدد الصفحات، الذي يبدو في تسريد حياة "راية" أكثر منه في تسريد حياة "حسّان".
اللغة السردية
اللغة العربية الفصحى، هي اللغة السائدة في تسريد أحداث الرواية. باستثناء عدد محدود من الجمل السردية، التي وردت صياغتُها بلغة محكية. من مثل ردّ النائب البرلماني على الجدة: "ولا يهمك يا عمة .. سأحاول"([25])، حينما طلبت منه أن يحاول البحث عن ابنها المفقود، "أب حسّان".
وتميّز تسريدُ كثيرٍ من الأحداث والسياقات بلغة مشوبة بمسحةٍ من شعرية اللغة السردية. من مثل ما في هذه الجملة: "بدت نجوم السماء كأنها تتطاير من فرن الموقد الكبير هذا الذي يسمى العالم"([26]).
جماليات الحبكة والنسيج السردي
قامت الحبكة والنسيج السردي على نوعٍ من التشبيك والتقاطع والانتقالات التي أضفت على العمل نسقًا من التماسك. ذلك؛ من خلال توزيع سيرورة المضامين على مساحات متباعدة من تسريد الحكاية.
من ذلك، تسريد مشهدٍ في مدرسة النازحين كانت فيه "راية" وصديقتها "مارية" عائدتين إلى المدرسة، وعلى رأسيهما صفيحتا ماءٍ، ولاحظتا مراسلًا لإحدى القنوات الفضائية، يلتقط لهما صورة بكاميرته: "صوبت الكاميرا نحو الشابتين، لقطة ثمينة لنازحتين بهيئة رثة، تحملان الماء على رأسيهما. هبطت العدسة نحو أقدامهما، هوت راية بصفيحة الماء محاولة إبعادها"([27]).
ومن هذه اللقطة السردية، ينتقل السياق السردي إلى مضامين أخرى، ليعود إليها ثانيةً بعد مساحة تجاوزت الأربعين صفحة؛ إذ استحضر تلك اللقطة بماهيتها السردية والتصويرية، مستكملًا تسريدها بموقفٍ كانت فيه "راية" في المستشفى، تشاهد في التلفاز مستجدات الأخبار والصراع، وخلال ذلك "شاهدت تقريرًا لنازحين، أشخاصًا يهربون بشكلٍ جماعي، وأطفالًا في المخيمات. شاهدت صورتها مع مارية الصحفي وهما عائدتان من البئر تحملان صفائح مياه على رأسيهما. توقفت الشاشة لثوانٍ على تلك اللقطة وكُتب عليها: "كارثة إنسانية محتملة""([28]).
كما تتجلى جماليات الحبكة والنسيج السردي- أيضًا- في تقنية الرمز، التي ظهرت في مواضع متفرقة نسقًا فاعلًا في تعزيز تماسك البناء السردي. من ذلك، توظيف مصطلح الراية في استيعاب بعض المضامين السردية؛ إذ أُسقط هذا المصطلح اسمًا لواحدة من شخصيتي العمل المحوريتين "راية صقراوي". ثم كان لهذا المصطلح حضوره في الواقع الذي عاشت "راية" تفاصيله، حينما وصلت مع أسرتها إلى مدرسة النازحين: "دخلوا من باب المدرسة المعوج إلى ساحة مليئة ببقايا حجارة البناء، وسارية لم يبق من ألوان العلم أعلاها سوى قطعة قماش صغيرة من اللون الأسود تُرى بصعوبة"([29]).
وتتضح الرمزية السردية، في حال "العَلَم"، التي لم يتبق منه فيها سوى تلك القطعة القماشية ذات اللون الأسود الدال على الظلام. وتحيل هذه الرمزية، على حال الوطن الذي أنهكه التمزق، واستوطن الظلام آفاقه وتفاصيل الحياة فيه.
كما تتجلّى- في السياق نفسه- الرمزية السردية بـ "عمود خيمة النازحين" إلى عمود الوطن، في لحظة كانت "راية" فيها تنصت إلى وقع قطرات المطر على سطح خيمتها، كانت تتثاءب وهي "تنظر في النقطة التي يرفع عندها العمود سقف الخيمة إلى الأعلى، لقد انهار عمود الوطن وبقي عمود خيمة هزيل مرشح للسقوط في أية لحظة"([30]).
كذلك هي الرمزية السردية إلى كثافة الموت، وانتشار القبور، حدّ ضيق المساحات بالموتى. ذلك؛ من خلال تسريد مواقف قام النازحون فيها بحفر أماكن نومهم في ساحة المدرسة، على هيئة قبورٍ([31])، استخدموها- فيما بعد- لدفن أطفالهم، الذين قضوا نحبهم بغارة جوية.
وقد اتسق هذا الموقف- في ماهيته- مع موقف آخر، في ساحة المستشفى الذي نجت إليه "راية" من الغرق؛ فبعدما نفدت المحروقات الخاصة بتشغيل ثلاجة الموتى، اضطر طاقم المستشفى، إلى حفر قبور في ساحتها ودفن الجثث فيها([32]).
ولعلّ من أبرز جماليات الحبكة والنسيج السردي، ما اتّسمت به النهاية من مفاجأة أربكت توقع القارئ؛ ففي مخيم النازحين، الذي استقرت فيه "راية"، فوجئت بوصول "حسان"- الذي لم تره منذ آخر مرة التقت فيها عيناهما- جاء "حسان" مرافقًا ملثمًا لخاله "سالم"، على ما كان يحمله من عداءٍ له وغيضٍ منه. ولم تتعرف إليه إلّا في لحظة اعتراضه لانقضاضها على "سالم" محاولة الانتقام منه، فأصيب "حسان" بجرحٍ في كتفه، ونجا "سالم". ثم غادر كل من في المخيم، ولم يبق فيه غيرهما: "حسان" الذي كان ينزف من كتفه، و"راية" التي كانت تنزف من قدميها([33]).
وبتسريد هذا الموقف الغامض المحيّر، وصلت الرواية إلى النهاية في تسريد أحداثها. بما هي عليه- هذه النهاية- من انفتاحٍ على احتمالات شتى، جميعها تحيل على استمرار إشكالية الوطن، وتمزّقه بموجات الصراع، التي تتناسل فيه كل يوم.