معول الخطاب الرّوائي في روايات بسام شمس الدين معول الخطاب الرّوائي في روايات بسام شمس الدين

الدكتورة سميّة عزام: ناقدة لبنانية

 

للموروث النثريّ الشعبيّ في العالم العربيّ، غواية استلهام ملامح شخصيّات، أو بُنية شكليّة في مسارها السرديّ، أو أنّه يغري بأجواء سردية غريبة وخارقة على أقل تقدير. صحيح أنّ الروائي اليمنيّ بسّام شمس الدين قد وضع قرّاءه في تلك الأجواء الحكائيّة لعوالم "ألف ليلة وليلة"، ولكن الأصحّ أنّ سياقات اجتماعيّة راهنة تخصّ مجتمعه، على غرار سيطرة الخرافة والجهل والطبقيّة والجندريّة، وأخرى سياسيّة، نحو الفساد وسوء استخدام السلطة، وتحكّم الخطاب الديني، حرّضته على رسم طريق فنّي يبحث فيه عن إثارة الأسئلة في منجزه الرّوائي، لعلّ القرّاء يتلمّسون إجابات ممكنة.

اللافت في روايات ثلاث لبسّام شمس الدين أنّ ما يطلق الحدث أو يوهم بجريانه وفقَه، هو الحلم المتّخذ صورًا مختلفة تتراوح بين الرؤيا في المنام على نحو ما جاء في "نهاية رجل غاضب" (إصدار2020)، والكابوس في رواية "لعنة الواقف" (إصدار2014)، والنبوءة/ الزعم المغرق في القدم في رواية "نبوءة الشيوخ" (إصدار2019). وإنما تتقاسم النصوص أيضًا غرائبيّة الرحلة بدلالاتها المتباينة أحيانًا، مع لحظ السِمة المُبهجة للنهايات.

هذا التماهي في البُنية يؤكّد وحدة الرؤية الناظمة وموقفًا يتجلّى في الخطاب الروائيّ. فالسؤال الأوّل الذي تطرحه علينا النهايات السعيدة يحيلنا إلى ما يبتغي أن يبشّرنا به الحلم من معنى، لا سيّما أنّ النمط الروائي الغريب العجيب ([1]) يشتغل على ثنائيّة المضيء إزاء المعتم. بهذه الحبكة في خواتيمها السعيدة منفذ إلى طمأنينة مرجوّة، "إذ يصوّر حلمًا أشبه باليوتوبيا التي يرتاح إليها الإنسان ويهنأ باله فيها، فيغدو ما كان حلمًا حقيقة، وما كان مستحيلًا ممكنًا، وما كان غير معقول معقولًا" ([2]).

أمّا السؤال الثاني فيتعلّق بتجربة الرحلة ودلالاتها، وما تتيحه من تحوّلات في مستوى الهويّة للشخصيّات الرئيسة. وانطلاقًا من هذين السؤالين تتوالد أسئلة من لدن كل رواية، بدءًا بالعناوين؛ كأن تُستثار الأسئلة حول مسبّبات الغضب ومصيره، وعن أسباب خروج الموتى من عالمهم وماهية مطالبهم لدى الأحياء، وعن الوجهة التي تحقّقت بها نبوءة تجد صداها في الذاكرة الجمعيّة.

 

في مسألة الهويّة تعود بنا الذاكرة إلى السؤال الفلسفي العتيق: هل أنّ شخصيّة الإنسان قدره، أم أنّ القدر هو ما يشكّل شخصية الإنسان؟ غالبًا ما تؤكّد الإجابة السرديّة جدليّة العلاقة بين الشخصيّة والقدر، أو المصير بمعنى أدقّ.

ما المهمة المقدّسة في "نهاية رجل غاضب"؟

حلَم الفقيه جعفر، من القفر الأعلى، بدعوة أخته فوزيّة التي نُفيت مع زوجها عمر إلى قرية "المقهاية" في بريّة القفر الأسفل، إلى زيارتها بصحبة أصغر أبنائه. وتخبره في الحلم بأنّها على وشك الموت. جعفر هو والد زيد، الراوي ذاتيّ الحكاية، وذي الاثنتي عشرة سنة في زمن الحدث، وقد رافق أباه تلبية لنداء الحلم. أمّا أسباب نفي الزوجين فتعود إلى حاكميات التراتب الطبقي في مجتمع النصّ. إذ إنّ عمر ابن فلاح يعمل لدى الفقيه محمد بن حسين.

تكرار الدعوة الحلميّة، وإن كان الدافع لبدء الرحلة بين القفرين، فقد عزّزته إشارات غيبيّة يعلي الفقيه من شأنها بعد الوقوف في ضريح الولي العارف سراج الدين لاستشارته، وأخرى ما هي إلا أحاديث عرَضيّة، كأنما تفسيرها جاء إجابة عن أسئلة جعفر، ولو افتقد ربطُ بعضها ببعض أدنى تسويغ عقلاني. على غرار خطبة إمام المسجد وموضوعها زيارة الأرحام، وحثّ الجار ابنه على زيارة أخته في القرية المجاورة سيرًا على الأقدام... هكذا اتضحت الرؤية واكتملت الإشارات.

لا ينفك جعفر يردّد بإيمان راسخ أنّ مهمّته محفوفة بالعناية الإلهيّة، لأنّه في طريقه لتنفيذ أمر الله، وهو المسكون بقصص الأنبياء، قصة إبراهيم مع ابنه إسماعيل والكبش على وجه الخصوص (وفقا للرواية الإسلامية). وعلى الرغم من الإشارات المضادّة والتحذيرات على مدار الرحلة، والأهوال التي تعرّض لها مع طفله، فقد انتهت الرحلة بنجاة زيد، وبغير اكتمال الإجابة لدى جعفر. بل لعلّ موته مسمومًا بلدغة أفعى، ومبعثر العظام في كهوف الضباع الجواب الوحيد على الغضب والعناد واللاعقلانيّة.

بُنية الرواية بنية رحلة لشخصيّتين، وفي مسارين، حيث كرّس المسار الأول دلالة العنوان على وجه سالب في ظاهر الأمر، والمسار العَودَوي الثاني تكلّل بالفوز. فشل مخطّط الغضب المُضمَر من الأخت "العاصية والبغيضة": "مرّت أعوام طويلة وشقيقته في المنفى، وكان ينبغي أن تموت بخنجره... أصيب منذ ذلك الحين بنوبة من الغضب الحاد لازمته حتى آخر لحظة من حياته"، يقابله تمكّن زيد من العودة وفي كفّه كنز: ابنة عمّته هند. ومع هند وزيد إنباء بأفق جديد ترسم الرواية السطر الأوّل منه.

تنجدل الخطابات: الدّيني والطّبقي والقَبَلي والسّياسيّ. فيشغل الخطاب الديني مساحة لا يُستهان بها من النصوص. والخطاب الرّوائيّ، في المحصّلة، يندّد بالخطابات الاجتماعيّة السائدة. 

ماذا يريد الموتى من الأحياء في "لعنة الواقف"؟

الكابوس الأول باستفاقة الموتى من قبورهم راود وصيّ المقبرة ناصر، في قرية "بيت الهادي". غير أنّ أحد وجهاء القرية، الجدّ مبخوت، وقد أشار بذبح بقرة ابنته قبول إكرامًا للموتى، وذلك لاقتحامها المقبرة، ووضعها الروث على شواهد القبور، كان هو أوّل من أصيب باضطراب النوم، بفعل مطاردة البقرة الحمراء له في لياليه، متجاهلًا خشية الناس ممّا يجلبه ذبح بقرة حالبة من شؤم على القرية.

مهما يكن من أمر التطيّر لدى سكّان القرية، فإنّ ناصر يتميّز بحدس قويّ بالأحداث قبل وقوعها فينبئ بها، لكنّ أهل قريته يتشاءمون من أقواله، ولا يصدقون رؤاه في كلّ مرّة. كأن يرى المسعفين وصفيّة (المعنّفة) ابنة الفقيه في عداد الموتى، وريشة (المنتحرة) ابنة أمين القرية في منام آخر، أو مهاجمة قطعان من الأبقار لهم في الليلة التي احترقت فيها الزرائب وخزائن الأعلاف. وسرعان ما بات الكابوس نفسه يرعب الجميع ويقلق راحتهم، واستمر شهورًا مع تبدّل صورته في كل ليلة.

وعلى الرغم من معرفتهم بانتهاك الأرض التي أوقفها للمقبرة الجد الأعلى، زيد الهادي، منذ خمسة قرون، والتعدّي ببناء منازلهم فوقها ونشر قاذوراتهم في أرجائها، فمصالح السّكان اقتضت إشاحة النظر عن إخلاء القرية وهدم المنازل، بل آثروا الاستعانة بالمقرئين حينًا، وبالوسيط الروحي "سعد المسفّل" حينًا آخر لطرد الكوابيس وإعادة السكينة للموتى، حالما حدسوا بأسباب مطاردتهم الأحياء. جاءت شروطهم وفق إفصاح المسفّل، منسجمة مع اقتراحات ناصر، وهي تقضي بهجر القرية، وإعادة الأراضي المغتصبة، وبناء سور يحيط بالمقبرة من غير إغفال تنظيفها.

هذه الكوابيس، وإن تحرّر منها من ترك القرية إلى أخرى جديدة دعيت بقرية "الهِجرة"، فإنّها مع كل تعدٍّ تعود لتهاجمهم أفرادًا أو جماعات. على سبيل المثال، حين قتل ناصر الفقيه عبد القادر، هاجمه ميتًا في الحلم، ومع بناء سور حول حقل البُنّ المغتصبة أرضُه تهاجم أفواج الموتى عمّال البناء. إلى أن انتهت الأحلام المريعة بإزالة التعدّيات، وإعادة الحقوق للموتى والأحياء على حدّ سواء.

الخرافة والإيمان الغيبي والجهل تجلّل النصوص وتدخل في تكوين الشخصيّات وأنماط تفكيرها: من الاستنجاد بالصّوفي وأدويته البدائيّة إلى الفلكي (المنجّم) لمعالجة الاضطرابات النفسية، والمقرئين لطرد الكوابيس، والمسفّل للتوسّط مع أرواح الموتى الهائمة، وإلى الشيخ العجيب (العرّاف) المتهّم بالشعوذة والقدرات الخارقة.

كيف تحققت "نبوءة الشيوخ"؟

مصادفات قادت خطى الأجير مهدي نصاري لتوحي للقارئ أنّ نبوءة الشيوخ ستتحقّق مع كل خطوة يخطوها بغير علمه أو قصديّة منه. فهو المكرَّس والمُختار لفكّ مغاليق ما سكن في الذاكرة الجمعيّة. سلسلة مغامرات وجد نفسه مقذوفًا لخَوضِها. من قريته "سحمَّر"، عاصمة لمملكة قديمة مجهولة، إلى تل "مكراب"، حيث عثر على غرفة العظام المحروقة (وهي قرابين مقدّمة لإله القدماء)، ومن ثَمّ إلى تل "الأكمة" يخصّ قرية عُثر فيه على ناووس يضمّ جثة أميرة بكامل جواهرها.

تبدأ حكاية الكنز ليغدو للقرية وجود على خريطة العالم. بالانتقال إلى جبل "الرزاعي"، يُعثر على الكنز العظيم. تشير التكهّنات، في قول مسجوع تردّده العامّة، إلى وجود كنز في موضع ما من تلّ "مكراب"، وإلى أنّ رجلًا ما سيعثر عليه، وأنّ كلّ من يشاهده أو يشارك في عمليّة استخراجه لن ينجو سوى واحد يفوز بامرأة جميلة. منذ بدء مغامراته حتى نهايتها، لم تلقَ هذه النبوءة تصديقًا لدى مهدي، بل ردّها معلّلًا إلى خصوبة خيال الفقراء، وإلى أحلام أجير أبرحه الجوع والجشع. إنّما لا يتمّ المعنى/ المغزى بغير تحقيق النبوءة، بموت مكتشفي الكنز ونجاة مهدي عائدًا مع كنز معنويّ، لعلّه المقصود: زوجة تحبّه وتورثه البنين والبنات، وتجعله من الملّاك الجُدد.

وإذ تتخذ الرواية بُنية الرحلة ذهابًا وإيابًا في إطارها الأوسع، تتابع في الوقت عينه رحلة كل من مهدي، مع الآثار اليمنيّة التي تعود إلى زمن خط المسند، وتحطّمها واندثارها ونجاته دونَها، وخليلة ابنة أحسن الباكري، وأرملة موسى البادي، الهاربة من انتقام قبيلتها آل الحارث. ذلك بالتوازي مع رحلة التحوّلات في المستوى العام من نظام ملكي إلى جمهوري للدولة، من غير أن تغفل إفراد مساحة لخطاب السجون، حيث قبع مهدي وخليلة في المعتقل لمدة عامين، باتهام باطل بالاعتداء على دوريّة لجنود مصريين، وذلك إبّان ثورة 1962 (زمن الحدث الرّوائيّ).

ثمة هرميّة متكاملة من القهر تتمثّل في قهر الجماعة للفرد، وقهر السلطة القبليّة أو الحزبيّة الحاكمة للأفراد والجماعات، وقهر الموروثات الثقافيّة والتقاليد الانغلاقيّة للحكام والمحكومين جميعًا.

زيد، وناصر، ومهدي: الاختبارات الصعبة

الرحلة، وإن كانت حدث الانتقال في المكان أو التردّد بين الأمكنة، فهي أيضًا مجاز الانتقال والتأمّل في معنى التجربة. تتبدّى رحلة في الزمن الوجوديّ لا الماديّ فحسب، وتكرّس فضاء التحوّلات والتغيير. فلا هويّة تبقى ثابتة مع تجربة السفر- باستثناء هويّة الفقيه جعفر التي لم تتبدّل- فجاءت النهاية المأسويّة لهذه الشخصيّة الغضوبة والمتطرّفة حتميّة، لتوجّه فهم الرؤية للخطاب الرّوائي.

في مسألة الهويّة تعود بنا الذاكرة إلى السؤال الفلسفي العتيق: هل أنّ شخصيّة الإنسان قدره، أم أنّ القدر هو ما يشكّل شخصية الإنسان؟ غالبًا ما تؤكّد الإجابة السرديّة جدليّة العلاقة بين الشخصيّة والقدر، أو المصير بمعنى أدقّ. حيث إنّ أيًّا من الشخصيّات الثلاث لم تختر رحلتها أو عملها، بل مُنحت هويّة، وفُرضت عليها رحلة لم تسعَ إليها، ورغم ذلك اتخذت مآلاتها الوجهة الإيجابيّة، إن في المستوى الشخصي باكتساب المعارف والخبرات، وإن في المنحى الاجتماعي/ الطبقي بكسب الهناء بعد مشقّة.

يشكو زيد من قسوة الآباء، ومن فرض سطوتهم على الأبناء وإلزامهم بقراراتهم وتهويماتهم. في بداية الرحلة مع والده جعفر المؤمن بأنهما من سلالة محاطة بالعناية الإلهيّة، تملّكته روح المغامرة، متوقّعًا الظفر بأشياء مبهجة. ليكتشف شيئًا فشيئًا عقم أفكار والده، وتطرّفه في فرض آرائه الدينيّة على كل من نزل عنده ضيفًا. وصولًا إلى تزيين جمال الاستشهاد في سبيل تنفيذ مشيئة الله. لكنّه سرعان ما خرج بعض الشيء من عباءة الأب، وبات يخطّط، لا سيّما في التجويف إثر إصابة والده، فأتيحت له فرصة القيادة وحماية والده من مهاجمة قرود الرُّباح. ويتساءل: "هل أظلّ تابعًا له طوال الرحلة حتى نهلك سويًّا؟".

مع كل معركة يخوضها الوالد وموقف يتّخذه، يراه زيد غير موفّق بل مغلوطًا، يُصاب بالحيرة والكدر من افتعال والده المشكلات في أي مكان يحلّ فيه، فيطرح عليه الأسئلة، حينًا بشأن انزعاج الله من أجواء المرح والرقص والابتهاج، وتلصّص ملاك السيئات على أفعالهم، وحينًا آخر لقلقه من نيّة والده في تقديمه- هو أو عمته فوزيّة- قربانًا لإشباع "غريزته الروحيّة". بين القفرين الأعلى والأسفل، شاهد قرى ونماذج بشريّة غريبة الطبائع والسلوكيّات، وتعرّف على الشيخ العجيب المتّهم بالشعوذة والقدرات الخارقة، وشهد معارك والده في المسجد ومع السكان المحلّيين ومع فوزيّة التي لم يكتشف أنها أخته، ومع عضّات قرود الربّاح ولسعات النحل، كما حوصرا في السيول، وتعرّضا للجفاف والعطش والجوع واللهيب الحارق. جميعها جعلت منه زيدًا آخر، يفكّر ويواجه وينتقد.

الحال مماثلة لدى مهدي نصاري الأجير، وناصر وصيّ المقبرة. فالأول خرج لجلب الأتربة لسدّ ثقوب في سقف منزله المتواضع ليمنع تسرّب المياه إلى الداخل. لكنّه، وهو المتّهم بالعقم والمبالغة في تصوير مشاهداته، بات يلقّب بالمحظوظ، وفق تصوّر الشخصيات، لعثوره على غرفة العظام، فالناووس الحجري، ومن ثَم بركة الأسلحة الأثريّة والذهب. وهو محظوظ أيضًا، لنجاته من الموت مسمومًا في الجبل على يد مهرّب الآثار، ومن قصف شاحنة التهريب، ومن الإعدام بتهمة موالاته للملَكيين ومعاداته الثورة والجمهوريين، ومن السجن مرة أخرى بتهمة الضلوع في مهاجمة الجنود المصريين، وإلى نجاته أخيرًا مع حبيبته خليلة من انتقام عشيرتها.

هذه التجارب أكسبته شخصية مختلفة، فما فتئ أن فهم مقاصد الخبثاء ومزاعم الفاسدين، فواجه الملّاك والأمراء بعد أن كان يجزع لنظرة من المالك المراغة في قريته. ففي المعتقل الأول مع سجناء ملَكيين مُقبلين على موت وشيك، استبسل في مواجهة أمير من أمراء القبائل رافعًا صوته بجرأة "كشخص رعديد يصرخ في وجه أسد ميت".

والثاني، أي ناصر الرجل الذي ولد في المقبرة، خفيض الصوت، المتّهم دائمًا ببثّ أخبار الشؤم بسبب رؤاه، غدا صوته مسموعًا حالما آلت إليه مسؤولية أمين القرية، لعجز عمّته قبول عن متابعة مهامّها. وحلا للأهالي توجيهه وتعنيفه والتدخّل في شؤونه، إلى أن ثار متخليًا عن تواضعه/ أو ربما ضعفه. تحوّل بداية إلى الصورة التي أرادها له الناس، مستبدًّا ومتعاليًا، إلى أن انتبه إلى الحال التي وصل إليها من نفور الأهالي منه وتحاشيه، وفرار النساء من وجهه، خصوصًا حبيبته عزيزة.

وإذ يتصفّح صورته في المرآة ويتأمّل تجاعيد الأمناء السابقين على وجهه الثخين القاتم، يناجي نفسه قائلًا: "كنت أعي تمامًا أنني أتدحرج، بل وأنزلق نحو هاوية لن أعود منها سالمًا". ليعود من جديد ذلك الرجل الودود والمُهاب في آن، مصحّحًا أخطاءه، ومقبلًا على عزيزة التي أعياها انتظاره.

"قَبول" المؤسِّسة

المتتبّع مسار هذه الشخصيّة وتحوّلات هويّتها، يكتشف أنّها شخصية محوريّة في الرواية، ومحرّكة الأحداث. فإن بُنيت الرواية على قطبين في المكان والمفهوم، هما منازل الأحياء والقبور، فقطب آخر يرفد الخطاب الروائي، يتمثّل في قرية "الهجرة" الجديدة المبنيّة بيوتها على أرض وهبتها "قبول" للفلاحين وساعدتهم بمبالغ للبناء تُسدّد وفق مواقيت متفّق عليها، مقابل قرية "بيت الهادي" القديمة المبنيّة على الأرض الموقوفة. بدأت حكاية قبول مع ذبح والدها مبخوت بقرتها مقتحمة المقبرة؛ حيث أظهرت رباطة جأش فريدة.

إثر موت والدها وأخيها وزوجها، آلت إليها الممتلكات جميعها من البيت العتيق إلى الحقول، علاوة على أمر الوصاية على المقبرة. وهي، وإن كانت من عائلة ذات نسب ويسر ووجاهة، فلها شخصيّتها التي مكّنتها من مواجهة الفقيه عبد القادر وأمين القرية صويلح جوهد. غدت أمينة القرية الجديدة التي أسّستها. وهذه سابقة بأن تتولّى امرأة هذا المنصب الذي لا يتولّاه عادةً سوى الرجال. تخاطب الأمين جوهد قائلة: "ماذا يعني أن أكون امرأة؟ ... ألم تتولَّ والدتك أمر تربيتك في يوم ما؟".

لدى قبول موهبة في "اشتمام الشرّ المتخفّي وراء اللحى والعمائم"، كما يفصح الراوي. فقد حدست بالأذى اللاحق بصفيّة، ابنة الفقيه، وقد حبسها عقابًا لها. واجهته وحرّرتها. أنشأت المرافق للقرية، واعترضت على أداء مندوب الأوقاف، لأنّه لا يهتمّ إلا بمتابعة غلال المسجد، مهملًا قضايا تهمّ الناس. وتابعت تحديّات أمين القرية المتهالكة وبنادقه، محذّرة من إثارته غضب الأحياء كما أثار غضب الموتى، ودافعت مع فلاحيها عن القرية والكرامة.

هذه المرأة العاقر، تحمل خطاب الأمومة في القرية الوليدة، وتنطق أيضًا بخطاب سياسيّ سرعان ما بات شبيهًا بخطاب الأمين السابق، لجهة الوقوف الموقف نفسه أمام حقل البُنّ (وهو جزء من الأرض الموقوفة) واستقدام جرّافة تنتهك حرمة الأموات لبناء سور يحميه من السيول. لكنّها ما لبثت أن استعادت هويّتها السابقة، أو أنّ ما كانت تضمره قد برز للعلن، ودائمًا وفق خطّة النهايات السعيدة. تفيد وصيّتها بتسوير المقبرة القديمة. وكان قبرها الأول في مقبرة القرية الجديدة، لتكتمل الدائرة.

ثمة طابع لساني للعلاقة المتبادلة بين البُنى الثقافيّة والأدب؛ إذ إنّ الحياة الاجتماعية تقيم صلة مع الأدب من خلال مظهرها الكلامي ([3]). فالتجلّي لأي صراع يمكن اختصاره في تنازع الألفاظ داخل النص؛ لفظ بإزاء آخر. بتعبير جامع، إنّ النصّ ذو طابع مزدوج: فهو بنية مستقلّة وبنية تواصليّة، يتّخذ موقفًا من المجتمع، ينقده من خلال وجوده. والخطاب الروائي يحمل رؤية الكاتب وموقفه من الصراعات القائمة في مجتمعه وفي لحظته التاريخيّة ([4]).

 مارد رجعيّ يخرج من قمقم

غالبًا ما تنجدل الخطابات: الدّيني والطّبقي والقَبَلي والسّياسيّ. فيشغل الخطاب الديني مساحة لا يُستهان بها من النصوص. في رحلتَي زيد (نهاية رجل غاضب) ومهدي (نبوءة الشيوخ) تعرُّف بمفاسد السلطتين الدينية والسياسية. فقد انتبه زيد إلى صراع جماعات دينية واقتتالها على إدارة المسجد، على غرار أهل الدعوة، والفقهاء الرجعيين. وإلى من عاد من جهاده في دول الجوار ناقلًا معه أفكارًا وسلوكيّات دخيلة على المجتمع المحلّي، ومثيرة للفرقة والشقاق بين المؤمنين. وانتبه مهدي إلى أنّ من سيرث ثورة خطابُها تغييري هي تيارات قوميّة ودينيّة متنافرة تلاقت في رجعيّتها. "لم يتغيّر شيء. خرج الناس من قمقم صدئ إلى آخر. هذا هو السجن الحقيقي".

الخرافة والإيمان الغيبي والجهل تجلّل جميعها النصوص، وتدخل في تكوين الشخصيّات وأنماط تفكيرها. من الاستنجاد بالصّوفي وأدويته البدائيّة في قرية "سحمّر"، إلى الفلكي (المنجّم) لمعالجة الاضطرابات النفسية، والمقرئين لطرد الكوابيس، والمسفّل للتوسّط مع أرواح الموتى الهائمة، فإلى الشيخ العجيب (العرّاف) المتهّم بالشعوذة والقدرات الخارقة، وهو بريء من ظنون العامّة وأوهامها. فضلًا عن الإيمان بالرسائل الغامضة والإشارات من الأولياء الصالحين. هذا الخطاب الذي يغيّب العقل في تفسير الظاهرات واتّخاذ القرارات والمواقف هو نفسه يدين خطاب العلم المنهجي، والعلوم الطبيعيّة والتجريبيّة، لتعزيز موقعه.

يجاور العجيب في عوالمه عالم الواقع، مع اختلاف القوانين التي تحكم العالمين. فالقارئ يتعايش مع السحرة والعمالقة والجان (علاقة المسفّل بعالم الموتى وتواصله معهم في "لعنة الواقف"، وتفاهم الشيخ العجيب مع القطة السوداء في "نهاية رجل غاضب" على سبيل التمثيل) ويتواطأ مع ما يخالف منطقه ويقبل بدخول اللعبة الفنيّة، مستسيغًا العودة إلى تصوّرات الطفولة... أما الحكايات الخارقة فتستدرج القارئ إلى عالم يشبه عالم الواقع، إنما بغتة تنتصب امامه ظاهرة لا تفسير لها تمزّق عالمه المطمئن (على غرار عودة الأموات للانتقام كما في "لعنة الواقف"). فالخوف هو مبدأ القصص الخارقة، والحكم عليها مدخله يكون من خلال قوة الانفعال التي تثيرها في قارئها. والغريب يتميّز بأحداثه التي تظهر خارقة وغير قابلة للتفسير، ثم تتكشّف في النهاية عاديّة ومفهومة، فإمّا أنّ الأحداث كانت نتيجة توهّمات وتخيّلات، وإما أنها حدثت نتيجة خدعة أو مصادفة أو ظاهرة قابلة للتفسير العلمي، تمامًا كما في النماذج الروائية الثلاثة موضوع الدرس.

إنما يبرز الخطاب السياسي جليًّا في رواية "لعنة الواقف"، لجهة سوء استخدام السلطة، وتكرار الأخطاء السابقة بعد نقدها حالما يتبوّأ من كان في صفّ المعارضة المنصب نفسه. هو مرض الاستقواء بالنفوذ يقابله مرض استضعاف الذات والاستلاب والتملّق لدى العامة، والنظر إلى من في السلطة معصومًا عن الزلل، (إذ لم يصدّق السكان أنّ أمين القرية ناصر، قاتل الفقيه عبد القادر). "لو دامت لك لما آلت إليّ". قد تكون هذه الخلاصة المقصود تسريبها في "لعنة الواقف"، في تتبع مصير الأمين السابق الرافض انتزاع السلطة منه، فكان مصيره الجنون بعد فشله في سلسلة أعمال تخريبيّة قام بها.

تتيح الحبكة في الرواية نفسها تأويل الكوابيس التي تهاجم النيام ليلًا بأنّها ليست إلا الحدث الذي يهزّهم بعنف لعلّهم يستفيقون. أي أنها "وخز الضمير" مع كل معصية أو تعدٍّ على حقّ عامّ أو شخصيّ. كأنّما هذا التأويل يكرّس الوجه الآخر لمقولة "الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا". إذ بالإمكان أن نرى أنّ الناس نيام، فمتى استفاق الموتى انتبهوا! وفي استعارة كبرى لعالمي الموتى (في القرية القديمة) والأحياء (في القرية الجديدة)، يقودنا التأويل إلى عالمي الماضي والحاضر المتوثّب نحو المستقبل، في رؤية مغايرة تجيب عن السؤال: أي وجه للقرية يريد الخطاب الروائي؟

الخطاب الرّوائي ينزع إلى تغيير مفهومَي الخصوبة والعقم، وإلى هدم التصنيف القارّ بين المهمّش والأصيل، ورفيع النسب ووضيعه، فهو لم يحسم الجدل بشأن المرأة، بل أبقاها في وضعيّة بَينيَة، تتردّد بين موقعَي المفعولية والفاعليّة.

المهمّش حين يبزغ من الظل

إذا كان الخطاب الرّوائي ينزع إلى تغيير مفهومَي الخصوبة والعقم، وإلى هدم التصنيف القارّ بين المهمّش والأصيل، ورفيع النسب ووضيعه، فهو لم يحسم الجدل بشأن المرأة، بل أبقاها في وضعيّة بَينيَة، تتردّد بين موقعَي المفعولية/الموضوع والفاعليّة/الذات. فوزيّة، إن تحمّلت قرار تمرّدها على رغبة أبيها في الزواج ممّن تحب، فهي لم تكن بمنأى عن انتقام أخيها. وخليلة التي زُوّجت للضابط المستبدّ موسى البادي لطمع إخوتها بالميراث، وإن خالفت الأخلاق العامة، وزوّجت نفسها لمهدي وقادته، فقد بقيت في الوقت نفسه موضوع انتقام أخيها وعشيرتها، وظلّ مهدي بالنسبة إليها مثال الأمير المنقذ. أما قبول، فلم تنجُ هي الأخرى من صَلف الفقيه وأمين القرية كونها امرأة. وعزيزة بقيت رهينة مزاج ناصر في تحديد موعد ارتباطهما.

كما تبرز المفارقة الساخرة بين خطبة إمام المسجد في أهمية زيارة الأرحام إزاء استسهال قتل الأرحام في حال المخالفة في الرأي في ما يخصّ الفتاة. بل حريّ بنا القول إنّ لا شيء يخصّها بل يعود الأمر والنهي برمّته إلى العائلة أو القبيلة. فالأقدار أقدار جماعيّة، إذ يكشف الخطاب التغييب الحادّ لما هو فرديّ وشخصيّ وذاتيّ.

الملاحظ أنّ الكلام الحكيم في مجمله لم يتفوّه به أصحاب السلطان والمكانة الرفيعة. الأمر الذي يفسح المجال لفهم ما يضمره القول الروائي من مقاصد. هذا الشيخ العجيب يحذّر الفقيه جعفر من عناده وتطرّفه في قوله: "مثلك في هذا الزمن سيقاد إلى حتفه دون أن يشعر"، متمنّيًا أن يكون الابن مختلفًا عن الأب. ويمسك بيد زيد ويسرّ له بأمنيته أن يفهم ما يحدث؛ فهو رجل منصف وليس شريرًا في إقفال المسجد واحتجازه من اقتتلوا فيه. وأن يفهم عمى الناس الذين يضخّمون الأشياء، ولا يحسنون إدارة شؤونهم. تمامًا مثل العجوز حمّود في القرية المبتهجة بغير مسجد، في إشارته إلى زيد ألّا يكون مثل أبيه يعشق العراك والمشاكل.

وما جاء من تهكّم على لسان فوزيّة يندرج كذلك الأمر في الخطاب المتبصّر للمهمّشين. إذ ترى أن لا شيء في الحياة يستحق أن نغضب، ونهلك من أجله. وما يعبّر عنه زيد في سجاله مع أبيه، بحيث يشعر بالإشفاق على جيل والده الوسيط، لأنهم ليسوا بسطاء وأقوياء كالأجداد، ولا متعلّمين وأذكياء كالأحفاد. بل يراهم مجموعة من المكابرين الضعفاء والمؤمنين الشواذ. ويخلُص في تجربته إلى أنه لم يجد فرقًا بين قطعان البشر والحيوانات، بل إنّ الميول الوحشيّة تجلّت له بوضوح في القفر الأعلى، حيث الالتزام الأعمى بالتقاليد. وثبت له أنّ الشقاء يبزغ في مناطق الفضيلة والإيمان أكثر من أيّ مكان آخر رآه.

الخطاب الرّوائيّ، في المحصّلة، يندّد بالخطابات الاجتماعيّة السائدة. فثمة هرميّة متكاملة من القهر، تتمثّل في قهر الجماعة للفرد، وقهر السلطة القبليّة أو الحزبيّة الحاكمة للأفراد والجماعات، وقهر الموروثات الثقافيّة والتقاليد الانغلاقيّة للحكام والمحكومين جميعًا. فالشخصيّات في محاكاتها للسّياق المرجعيّ، شاهدة على مرحلة تاريخيّة. وإذا كان المضيء يسعى في صراعه مع المعتم للانتصار عليه، كما جاء في المقدمة، نجد أنّ خطاب الحياة والفرح بها قد انتصر على الموت، عبر توسّطات عديدة يفصح عنها خطاب الحق في معركته مع الباطل، والجديد مع القديم، والتحديث الفكري مع رسوخيّة التقاليد.

فأيّ إنسان يبتغيه الخطاب الرّوائي، وأيّ مستقبل يراه من خلال الثنائي زيد وهند؟ فوزيّة عادت من منفاها مجازًا عبر ابنتها. وما يكدّر عيشها وعيش زيد رحل برحيل الغضب والرجل الغاضب. هذه النهاية ما هي إلا رسم لبداية مغايرة، ولجيل ذي أفق أكثر انفتاحًا ورأفة بالإنسان، وأكثر تخفّفًا من ثقل التقاليد والشرائع الاجتماعيّة. ومهدي ما عاد أجيرًا مقهورًا وضيع الشأن، ومتنمّرًا عليه لعقم مزعوم. وناصر لم يعد ذلك الوصي رثّ الثياب المطرود من المجالس لتشاؤمه. بكلمة جامعة، فإنّ النّهايات المضيئة في الروايات الثلاث ترسّخ الرؤية المشرقة في استشراف مستقبل الآتي من الأجيال. وتقول قولَها إنّ الأمل بالتغيير والتجدّد والتحوّل ما هو إلا "الوجود بالقوّة"، الكمون في الحلم، وما هو إلّا عصف الانتظار.

الهوامش


[1] لطيف زيتوني،2002، "معجم مصطلحات نقد الرواية"، طبعة أولى، بيروت، مكتبة لبنان ناشرون، الصفحات: 86-88.

[2] ليلى حوماني، 2014، "العبور بين المعتم والمضيء تلك هي رواية شهرزاد"، كتابات معاصرة، العدد 93، المجلد24، بيروت، ص 108.

[3] بيار زيما، 2013، "النص والمجتمع"، ترجمة أنطوان أبو زيد، طبعة أولى، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، راجع الصفحات: 31-33. إنّ المجتمع يتظهّر في النصّ من خلال مسار تناصّي، هو المسار الحواري الاستيعابي (النقدي، المعارض والمتهكّم). فالنص، وفق دوركهايم، واقعة اجتماعية يباشر حوارًا مع بين اللهجات الاجتماعيّة، وبين خطب اليوم والأمس...

[4] سيد البحراوي، 1992، "علم اجتماع الأدب"، طبعة أولى، بيروت، مكتبة لبنان، راجع الصفحات: 52-53 و59- 60.