سمات الجنون ورمزيته: نماذج قصصيّة يمنيّة سمات الجنون ورمزيته: نماذج قصصيّة يمنيّة

حامد بن محمد: ناقد تونسي

 

لطالما وقع تمثّل السرد العربي في أركانه البنائيّة والجماليّة العامّة، حتى أضحت التفاصيل مجرّد توابع في سياق تأويلي ثانوي. حيث أنّ أي طريق مجانب لهذا المقدّس- الموهوم- يعتبر انزياحًا وخروجًا عن الأصل. أقول هذا وأنا على قناعة بكون المنجزات الإبداعيّة العديدة في دولنا العربيّة ذهبت ضحيّة النسيان نتيجة هذا التوجّه النقدي. منها التجربة القصصيّة اليمنيّة التي لم يحتفى بها نقديّا على المستوى العربي، وأنا أكتشف هذا المنجز كشاب باحث تونسي مسّني هذا الوميض الخفيّ لتشغيل المعنى الجمالي.

كما ذكرت في البدء، أنا لا أرى الجهاز النقدي كقالب مسبق يجب أن يتلائم معه كلّ منجز. الإبداع يسبق النقد. قبل المنهج هناك إحساس التفاعل مع ما يُطالع. من خلال هذه الانسيابيّة التفاعليّة أردت فتح البصيرة على ثيمة جماليّة وارفة الأبعاد وافرة المعنى وقع تشغيلها بصورة واعية في القصّة اليمنيّة وهي ثيمة "الجنون"، عبر ثلاثة نصوص لمبدعين يمنيين نحاول سبر أغوار هذا المعنى وبيان رمزيّاته. هذه النصوص هي:

"عمّنا صالح العمراني" لمحمد عبد الولي. والمجموعة القصصيّة "العقرب" للكاتب زيد مطيع دماج، و"المرأة التي ركضت في وهج الشمس" للكاتب حسن اللوزي.

لعلّ الجنون، كعلامة، مثّل نسقًا متكاملًا في المنجز الفنّي: شعر، رواية، تشكيل، قصة، مسرح، واستوعب مختلف رهانات المبدعين، إلّا أنّ القيمة الحقيقيّة لمدى حضوره تتمثّل في مدى مشروعيّته الواقعيّة، ومدى تحويلها جماليّا كي تؤدّي معنى التوعيّة والاسترشاد والتغيير. من هنا يتشكّل منحى توظيف الجنون بجماليّاته ورهاناته وليس عبر منحى إسقاطي تأثّري. من هذا المنطلق، يمكن القول إنّ القصّاصين المذكورين انطلقوا من المحلي الراهن بإرهاصاته وتجلّياته، وبذلك أكسبوا ثيمة "الجنون" حضورها الواعي في تشغيلهم الفنّي.

من خلال المجموعات الثلاث يتراءى لنا أنّ البطل المجنون يوظّف كرهان فنّي، يحضر كفاعل تصويري لنطاق محلّي مزري. صفة‎ الجنون التي ترتبط بالشخصيّات‏ في المجموعات المذكورة ناشئة عن وضعيات اجتماعيّة اقتصاديّة هامشيّة.

يتجلّى هذا النسق عند محمد عبد الولي في أغلب قصص مجموعته وخاصّة في "عمّنا صالح العمراني"، "ذئب الحلّة"، "السيّد ماجد"، و"ليلة حزينة أُخرى". حيث أفلح في توظيف البطل المجنون من أجل رسم الحبكة القصصيّة وفتح مآلاتها والبلوغ بها الى غايته الفنية المرسومة.

يشترك معه في هذا التوجّه زيد مطيع دماج خصوصًا في قصته "هاي هتلر". بطل هذه القصة مجنون- جنون العظمة- حيث يتمثّل نفسه زعيمًا يهتف في الجماهير وهي تصفق له.. ولكن هذه الشخصيّة تموت بعد سقوطها على درج المقهى. وفي هذا إيحاء على عصر سقوط الأنظمة وتسيّد الشعب.

من ناحية اُخرى، محمد أحمد عبد الولي وظّف الجنون لغاية سياسيّة بشيء من الذكاء، بالرّغم من أنّ أبطاله المجانين- في القصص المشار إليها سابقًا- لا يجلبون حتى التعاطف معهم. نتبيّن ذلك في شخصيّة ذئب الحلة؛ إذ يتعلّق الأمر بشخصية فتى يجنّ ثم يتوحّش. ولكن ما نتبيّنه في البطل المجنون الموظّف في نصوص عبد الولي أنّه شخصية واحدة تحت أشكال متعدّدة؛ فليس هناك إلّا صالح العمراني الذي يقدّمه الكاتب في كلّ قصّة من القصص الأربع تحت اسم مغاير "السيّد ماجد"، هو "ذئب الحلة".

والشخصيّة عند عبد الولي ثابتة لا تتطوّر. وقد ينطبق هذا الحكم خصوصًا على شخصيات القصص الأربع التي تحدّثنا عنها. بينما نجد حسن اللوزي يصطنع الجنون فلسفة لشخصيّة قصته "يحدث أحيانا في الجمجمة". البطل هنا ليس مجنونًا من جنس جنون "ذئب الحلة" أو "السيّد ماجد"، وإنّما هو جنون راق؛ فهو أقرب للأنقياء منه إلى جنون المعتوهين.

هذا التوظيف لثيمة الجنون بين الكتّاب لا يمكن أن نفهمه إلّا بتمثّلنا لكثافة استدعاء الرمز في القصة اليمنيّة عمومًا، وفي رسم الشخصيات خصوصًا. استخدم زيد مطيع دماج الرمز في بعض قصصه وخصوصًا في "العقرب" البيت العزيز ليس إلّا رمز للوطن، والابن الذي قتل اُمّ عريط بيده هو رمز لشاب يضحي بحياته من أجل أن تحيا الجماعة في أمن. كما أنّ أُمّ عريط نفسها قد تكون رمزا لاحتلال أجنبي أو خطر داهَم الوطن. ولا يقال إلّا نحو ذلك في قصة "الرحلة" أيضًا، حيث إنّ صاحب الكوفية الخيزران التي أكل العرق نصفها الأسفل قد يرمز به إلى الشعب اليمني؛ فبرغم القدم فإنّ فيه جوهر أصيل. وقد يكون صاحب النظّارة الطبيّة رمزا للرجل اليمني العصري. وقد تكون الفتاة ذات الشرشف التي تبثّ الموسيقى هي الحريّة، أي يمن المستقبل الباسم كما يتمثّله النص.

نجد حسن اللوزي في قصّة "يحدث أحيانا في الجمجمة" يستخدم الرمز في تقرير فكرة الهوس النرجسي، حيث يغامر بعض المرضى بحب الخطابة في الناس وإزعاجهم. وشخصيّة صاحب المقهى هي مجرّد شخصيّة ثانوية وإنّما الشخصيّة المحوريّة هي المجنون. ولكن هذا الجنون ليس حقيقيّا كما أسلفنا القول. هذه الشخصية هنا متّزنة وتبدو متمثّلة لمشكل الكون. اللوزي اصطنع الرّمز تارة أُخرى في قصّة "الأطفال وعين الشمس" من أجل هدف تربوي هو تحقيق التعاون بين المواطنين والحرص منهم على وحدة الصف.

ما يشدّ الاهتمام بين دماج واللوزي هو تمثّلهما لشخصيّة ذات ملامح واحدة؛ فالحيز هو المقهى والدية هي صنعاء والشخصية المجنونة هي القيمة نفسها احتمالًا. ونقصد قصتي "هاي هتلر" و"يحدث أحيانا في الجمجمة"؛ فالشخصيّة في القصتين تتمثّل نفسها زعيمًا هادرًا بصوته في الجماهير، كما تتمثّل كلّ ما يحيط بها ولو كان في شكل كراسي جماهير تستمع وتصفق.

كلّ ما في الأمر من اختلاف التناول في هاتين القصّتين الرمزيّتين أنّ زيد مطيع دماج يجعل النصّ السردي يتحدّث عن هذه الشخصيّة المجنونة. فالحديث إذن من خلالها وليس صادرًا منها أو هو وصف بالسلوك كما يتجلّى عند هيمنغواي وفيتز وجيرالد، وهي أرقى أنواع السرد. بينما نجد حسن اللوزي يبعث الشخصيّة- عبر القصة المشار إليها- من قبل حيويتها المباشرة فيجري على لسانها خطابًا طويلًا يشابه خطب الزعماء أو من يفرضون ذلك على الناس بدون إشفاق عليهم… ثمّ إنّ اللوزي يتدخّل في الأخير ليفهمنا بواسطة شخصيتيه المجنون وصاحب المقهى بأنّ الذي كان يستمع إليه صاحب المقهى لم يكن خطابًا وإنّما كان مجرّد مشهد من مسرحيّة لم تكتمل.

إنّ الذي يعود الى هذين النصّين السرديين اللذين افترضنا أنّهما رمزيان سيقتنع بأنّ الفكرة واحدة والشخصيّة واحدة والحيز واحد وربّما الزمن أيضًا، وإنّما الاختلاف يأتي الى النصّين من طريقة رسم الحدث حيث أنّ اللوزي يعمد إلى أنسنة الأشياء، مثل اعتبار كراسي المقهى كائنات عاقلة.. وهي فكرة قد تكون جديدة في القصة اليمنية المعاصرة- حينها- في حين أنّ دماج يجعل الشخصيّة تتّخذ من بهو المقهى منصّة تقوم عليها باعتبارها زعيمًا عظيمًا. إنّ الجانب الرمزي يلمس في قصة اللوزي أكثر من قصّة دماج.

مثّل الجنون عنوانًا مشتركًا بين القصاصين الثلاثة، وليس الأمر اعتباطيّا، من خلال ما وقع توضيحه، إذ أنّ الاشتغال على هذا المعطى مثّل نسقًا جماليًّا وقناعًا رمزيًّا أوصل مجمل رهانات القصاصين.

هذا ويبقى المقال قاصرًا عن استيعاب مختلف ملامح هذا المنجز القصصي اليمني. ولئن شمل مجال الاهتمام فترة معيّنة من الكتابة القصصيّة اليمنيّة فإنّه أشار إلى جملة أبعاد مشتركة تطوف حولها مختلف رهانات الكتابة القصصيّة اليمنيّة. هذا ويبقى العمل على المنجز الأدبي اليمني ضرورة خاصّة وأنّه مازال يحمل في أتونه سمات تموضعه وثباته وحيويّته. وهي دعوة أوصي بها نفسي كباحث شاب قبل الآخرين. أبعاد كثيرة لم تخض بعد وفيها اهتمامات النقّاد العرب حول الكتابة القصصيّة والروائيّة اليمنيّة من تنوّع تقنيات السرد واللغة الفنيّة وثيمات الاشتغال المستحدثة.