رواية رحلة روح: العودة إلى المستقبل رواية رحلة روح: العودة إلى المستقبل

كتب: رياض حَمَّادي

الرؤية التي تحملها الرواية أو الهدف منها هو الذي يحدد تقنية السرد فيها واختيار شخصايتها وتعيين زمنها أو أزمنتها ولغة سردها ومعجمها.. يتحد الهدف بالموضوع والشكل بالمضمون ليصنعا الرواية، وهذا ما تفعله شروق عطيفة في رواية "رحلة روح" بخلقها لشخصية معاصرة، ضبابية التكوين، غائمة ما بين الهيئة المادية الجسدية والروحية والوهم والحقيقة؛ ليسهل الانتقال بها في أرجاء التاريخ أو السفر عبر الأزمنة بهدف تبيان أزمة الهوية والضلال الذي وصل إليه عصرنا مقارنة بأزمنة حضارية سالفة عاشها أجدادنا. تنسجم هذه المواصفات مع عنوان الرواية "رحلة روح" الذي يشي بأن الرحلة روحية لا جسدية، مع أن السرد الروائي بطبيعته التخييلية والفنتازية يسمح بأن تكون الرحلة بالجسد أيضًا.

غاية الرحلة

ينطلق آدم في رحلة روحية من صنعاء القديمة في زمننا الحاضر إلى مصر منتصف القرن السادس الهجري في عصر ازدهار الدولة الفاطمية. والهدف من استدعاء التاريخ أو من رحلة آدم الروحية هو إعطاء نبذة عن أحوال كل زمان، مظهره وجوهره، وما ينتج عن هذه المواجهة من مقارنة تنطق بتغير الأحوال وتبدلها من الأحسن إلى الأسوأ، ولا تكتفي الرواية بتشخيص المرض لكنها تقدم رؤيتها للخروج من مأزق الحاضر.

في هذه الرحلة سيعرف القارئ أشياء عديدة كانت خافية عليه، يعاد تفسيرها أو التنقيب فيها واستدعاؤها في سياقات غير متكلفة مادام وقد أصبح لبطل القصة القدرة على السفر عبر الزمن والانتقال من مكان إلى مكان. المجنون في هذه الرواية، عبدالولي، هو أعقل الخلق والمرأة، نفيسة، ليست "ناقصة عقل" ولا دين، بل فيلسوفة ومتكلمة وهذا ليس بغريب ولا نفيسة بالنادرة، كما يعني اسمها، إذا ما عرفنا أن المرأة لم تكن تقل عن الرجل في فقهها وعلومها. (قدم أكرم ندوي في 43 مجلدا أسماء أكثر من 9000 من عالمات القرن الأول الهجري حتى أواخر القرن الثاني عشر.)

ستلاحظ غياب ملامح العصر الحاضر الذي انطلقت منها الرواية، صنعاء القديمة. لكن هذا الغياب سيحضر في صورته النقيض المتمثلة في الماضي الذهبي وإلى حد ما في المستقبل الذي يعد بعالم علمي مادي. واختيار مدينة صنعاء القديمة بما تمثله من روحانية هو اختيار موفق لما للمكان من روحانية خاصة تساعد على تثبيت جو الرحلة. كما أن اختيار اسم "آدم" فيه إحالة إلى الرمز الديني وقصصه.

استمرار "آدم" بطل الرواية، في رحلته إلى المستقبل يشير إلى أن الحياة ستمضي قدمًا نحو قدرها المرسوم؛ ولا مجال للاختيار إلا بعد استكشاف الخيارات كلها مثلما فعل آدم في قراره بالبقاء مع حبيبته بعد أن ندم على قرار رحيله من الماضي الجميل. ثمة مكان متقدم للغاية في المستقبل والسؤال الضمني الذي تلمح إليه الرواية هو: أين مقعدنا في تلك السفينة التي تجوب الفضاء وتتنقل عبر الأزمنة؟

العودة بالزمن إلى الماضي ليس من قبيل العشوائية بل هو اختيار مقصود لزمن انتعش فيه العلم والفلسفة والمدنية. ستتخذ الرواية من هذه العتبة\ الرحلة منصة لتناول مواضيع عدة: الحج والحب والشرك والخمر والسُكر\ الخمر والموسيقى والطب والكفر والإيمان والشرك والإلحاد.. وستعالجه من منظور منفتح وناقد للفكر الرجعي المنغلق.

يقول آدم لنفيسة مقارنًا بين زمنين: "البيمارستان يا نفيسة في عصركم أكثر تنظيماً من المشافي في عصري!"

والحل للخروج من مأزق الحاضر هو عودة آدم، ليس إلى مسقط رأسه في صنعاء القديمة، بل بالعودة إلى المكان الذي خرج منه، إلى الجنة. بهذه العودة تنتهي عذابات البشرية وآلامها. يأتي الحل بتنبؤ من العرافة: "سيعود به الزمان إلى أول الأمر، حيث كان، وحيث كنتِ أنتِ قبله، ولن يبقى لما حدث بعدها أمر!"

لكن آدم يخيب تنبؤ العرافة لينطلق في رحلة إلى المستقبل. ويعود من رحلته وقد تعلم التالي:

"لقد سبحتُ يا بنية في اللازمان واللامكان، حتى تقمصتُ شخوصاً كثيرة، وعرفت من علم الله اللدُنّي أموراً كثيرة، وعرفت كيف يوحى إلينا بالطبيعة، تعلمت كيف يجب أن أفهم لغتها، كيف أعود إليها بروحي وأسلم نفسي لها، عرفت السحر الخفي الكامن بداخلي، وعرفت كيف أسبح في ملكوت الله ورحمته، وكيف أرتبط بكل شيء حولي مهما اختلف، وكيف أني جزء من كلٍّ، والكل جزء مني! فُتحت لي مدن، ورُفعت عني حجب، وانكشف السر الأعظم، وعرفت كيف يكون الحب الخالد!"

مؤونة الروح

تخلص الرواية إلى فكرة "العود الأبدي"، وتقدم حلًا لأزمة الهوية بتزويد آدم بمؤونة روحية تساعده على الخروج من التيه. يقول له المجنون عبدالولي: "إذا استمر خوفك من معرفة الغيب فلن تفكر أبداً في اتقائه، لا شيء يردع الخطر عنك إلا معرفته جيداً، فلا تضيع الوقت في عجزك وخوفك، حرك جوارحك، فبها ستصل إلى اليقين، فإنك إن أصبحت بالغيب موقناً فأنت به مؤمن، ولا يكون الإيمان بغير ذلك."

يستمر المجنون في تقديم نصائحه لآدم:

"إذا فقدتَ عزيزاً بالموت أو بغيره لا تبحث عنه في آخر، فلن تجده؛ فلكل شخص أو حب يمر في حياتك مهمة ما، لإخراجك من الظلام والوحدة والألم، وإعادتك إلى ذاتك وإلى فطرتك، فافتح عينيك دوماً واكتشف الجمال في كل شيء آخر، وستجد دوماً من هو بانتظارك!"

ويقول:

"يا ولدي، الخوف ما هو إلا غمامة من الوهم، أفكارك إما أن تفسح لغمامة الخوف أن تكبر فتمطر روحك بالألم والندم والهزيمة والكآبة والضياع، فتفقد الطاقة في التأثير على المحيط، ويصبح تأثير ما حولك عليك أكبر فيسحقك، وإما أن تفسح لغمامة الإيمان والطمأنينة أن تحتويك فيكون تأثيرك على الكون كله أقوى، فيعمل كله خدمة لك."

إلى غيرها من الأقوال التي تجيب عن أسئلة آدم وتعينه على اكتشاف الحل للخروج من أزمة الهوية.

كما تقدم الرواية حلولًا لمشاكل المجتمع وإلى الكيفية التي ينبغي للدولة أن تدير بها الاختلافات. تحل نفيسة محل المجنون عبدالولي في تقديم الخلاصات الفكرية. نفيسة هي صوت ثانٍ لعبدالولي ولصوت الروائية في حال بحثنا عن الرؤية الفلسفية المنفتحة التي تتأسس عليها الرواية. تقول نفيسة في سياق بيانها لمعنى المرتبة الثالثة للدولة:

"هي المرتبة الروحية الرحمانية، التي لا طقوسية فيها تفرض، ولا كهانة، رحمانية بتقبلها الاختلاف بين عقائد الناس وأديانهم، وأحسن الناس أحسنهم عملاً وعلماً، تكون أمة العلم الذوقي الروحي الفلسفي، وأمة العلم البحثي النظري الحسي، وبذلك كله تكون أمة علمانية المواثيق كلها، بما يوافق السنن الكونية، المنفذة لأسماء الله، والتي لا نصل إليها إلا بالعلم والعمل، لا بالكهانة والظن. هذه المرتبة كما أصبح عليها العباسيون حينما أقروا بأن القرآن هو تجربة النبي الروحية، وهي أيضاً المرتبة التي عليها خلفاؤنا الفاطميون اليوم!"

تقنية الرحلة السردية

كما رأينا، تتخذ الرواية من الرحلة تقنية للسرد. ونجد هذه التقنية في روايات عدة مثل "مسرى الغرانيق في مدن العقيق" لأميمة الخميس الصادرة 2017 والحاصلة على جائزة نجيب محفوظ 2018. وهي رواية تاريخية تدور أحداثها فى القرن الرابع الهجرى، وتتحدث عن سيرة متخيلة لمزيد الحنفي، الذي يعمل تاجر كتب "فى زمن الفتنة والاحتراب وشهوة إحراق المدونات والمخطوطات." ينطلق مزيد من وسط الجزيرة العربية، تحديدا منطقة اليمامة، ويتنقل بين البلدان مدفوعًا بسؤال المعرفة. "يسافر مزيد الحنفي من وسط جزيرة العرب ليجد نفسه مكلّفاً بمهمة خطيرة. يتوقف فى بغداد، حينما كانت تضج بالنشاط الثقافى والفكرى والأدبى." ومن بغداد ينطلق- مع جماعة مهمتها تهريب كتب الفلسفة التى حظرتها الرقابة السياسية والدينية- إلى القدس ثم إلى القاهرة وقيروان والأندلس. "سبع وصايا كان عليه أن ينساها بعد قراءتها ويترك لرحلاته أن تكون تجلّياً لها. لكن شغفه بالكتب ومخالفته بعض الوصايا ختمتا رحلته بنهاية لم يكن يتوقعها."

كما نجد تقنية الرحلة في رواية "الخيميائي" وهي رواية رمزية من تأليف باولو كويلو،  نشرت في 1988 ، وتسرد قصة راعٍ إسباني يدعى سنتياجو يرى في الحلم كنزًا مدفونًا في أهرامات مصر فيقرر الرحيل للبحث عنه. "في رحلته يقابل سنتياجو الإثارة والفرص والذل والحظ والحب. ويفهم الحياة من منظور آخر هو روح الكون."  استلهم كويلو حبكة روايته من قصة قصيرة لبورخيس هي "حكاية حالمين". ويبدو أن بورخيس استلهم قصته من "ألف ليلة وليلة"، الليلة 351 بعنوان "الرجل الذي أصبح غنياً من خلال حلم." وتدور أحداث القصة "حول رجل يُطلب منه في حلمه مغادرة مدينته بغداد، والسفر إلى القاهرة، حيث توجد بعض الكنوز المخبأة هناك."

والكنز في رواية "رحلة روح" هو كنز معنوي، فكري، وفلسفي، ورحلة البحث تتطلب السفر في النفس والعقل والعلم ونحو الداخل لا في الجغرافيا.

 رياض حَمَّادي

اقتباسات من رواية رحلة روح:

"للأحلام والآمال أجنحة تحلق فوق الظروف لتعود إلى صاحبها حينما يتهيأ لها ذلك،

لا يُكبلها ولا يؤخرها إلا الانتظار، فلا تنتظر شيئاً إذا أردت قدومه، فذلك تعلُّق".

"اشتدت عجيساء الليل، والقمر هلال، يتسلل ضوؤه أخاديد الأرض. القناديل والفوانيس مازالت ترش أضواءها الملونة بألوان الكرستال على طول طريق حارة المعز لدين الله، وترسم معه لوحة سريالية شرقية أنيقة. كان المنظر مترعاً بالسحر والجمال، يتكاثف فيه الشعور بالسكينة والأمان. والخلق بين نائم غانم، وعاشق ساهر، وآخر متعبد متقشف أشقاه الخوف. وما عاد يُسمع في سكون الليل إلا عجيج النيل من خلف الأسوار، وحفيف سعف النخل وصفق ورق الصفصاف، ونباح بعض كلاب مشردة، يتخللها نحيم فَرَس ورغاء ناقة في "سوق الرحالة" القريبة من صدى وقع أقدام آدم والغلام الذي معه."

الرواية فائزة بالمركز الثاني في جائزة السرد اليمني- حَزَاوي