رواية العرش: ألف وخمسمائة عام من العزلة! رواية العرش: ألف وخمسمائة عام من العزلة!

رياض حَمَّادي

في رواية "العرش"، لنجيب عبدالحميد[i]، يمتزج الواقع بالفنتازيا (العجائبية) ليكوِّنا نصًا سرديًا فيه من روح "الواقعية السحرية"، بالأخص في الفصول المتعلقة بأجواء القرية وميلاد الطفل الأعجوبة. الجميل هنا أن السحر لا ينفصل عن الواقع؛ كما هو حال بعض الروايات العجائبية التي تُضيف للحكاية الواقعية عنصرًا عجائبيًا (شكليًا) يسهل فصله عن النص.

يتشكل البعد الواقعي السحري في رواية "العرش" من تفاصيل الحياة القروية التي يعرفها كل من يعيش في قرى اليمن. ثمة جانب جمالي في نص الرواية هو تفاصيل الحياة اليومية الريفية بخرافاتها وحكاياتها العجائبية التي لا تخلو منها قرية يمنية. بهذا البُعد العجائبي يحافظ السرد على تشويقه من خلال لغز الطفل "سعيد" حديث الولادة، الذي ولد ضاحكًا خلافًا لكل المواليد، والذي بمولده ساد القحط وانتشر الموت في القرية. وفي الجزء الثاني من أحداث الرواية يتولد التشويق من لغز الكنز ومن الصراع بين العلم والجهل.

الواقعي في ثوب العجائبي

تبدأ الرواية بفصل أول تاريخي، عن واقعة الأخدود. مايو533م، "على قمة جبل جنوب مدينة نجران، وقف (ذو النخاع) ملك اليمن وتُبّعُهَا الأخير المعروف تاريخياً (بذي نواس الحميري) تعكس عيناه الحرائق وهي تلتهم المدينة." وفي الفصل الثاني ينتقل بالزمن إلى "قرية يمنية صغيرة تقع على الطريق الرابط بين مدينتي تعز وعدن اليمنيتين، وتحديداً جنوب بلدة (الراهدة)، في أواخر يوليو من العام 1973م." وفي الفصل السادس ينتقل بالأحداث إلى العام 2013م.

بعد سرد حدث حرق المؤمنين في "الأخدود"، على نحو متخيل، ينتقل في الفصل الثاني إلى قرية تسمى (العرش)، تبدو للوهلة الأولى كأي قرية من قرى اليمن. لكن سرعان ما تكشف الأحداث عن غرائب تبدأ مع مولد الطفل "سعيد". يأخذنا السرد في الفصول التالية إلى رحلة في نفوس الناس وعقولهم، قصصهم وتفاصيل حياتهم في سبعينيات القرن العشرين، ولا يفيقنا من هذه الرحلة إلا صوت السارد الخارجي وهو ينتقد الجهل. خلال هذه الرحلة هناك إشارات إلى كنز بلقيس الذي أخفاه "عفريت من الجن بعد موت (سليمان) في جوف جبل (العرش) داخل مغارة عميقة أغلقها بكتلة صخرية ضخمة تشبه الباب، وهي تلك التي تراها عند قمة الجبل اعلى القرية."

مع انتهاء الفصل الخامس وبعد الكارثة التي حلت بالقرية كان السارد قد تخلص من كل شخصياته، "لم يغادر القرية أحد من أهلها سوى شخصين، التاجر (عبدالحليم) و(مريم) الصغيرة... هما فقط من شهدا حالة الانتحار والاقتتال الذي دار بين أهل القرية، عشية تلك الليلة لتغدو (العرش) بين عشية وضحاها خاوية على عروشها."

سيتساءل القارئ: كيف سيدير الكاتب دفة السرد في الفصول التالية؟! هل سيبدأ رواية جديدة بشخصيات جديدة؟!

ينتقل السارد بالزمن 40 عامًا؛ من السبعينيات إلى عام 2013م. وعلى بعد مئات الكيلومترات عن (العرش)، وبعد أربعين عاماً من كارثة أهلكت القرية. لتبدأ بقراءة رواية جديدة، أو هكذا ستظن، وما من رابط سوى إشارة إلى حدث هلاك القرية. وبعد أن تمضي في القراءة ولا تجد رابطًا تتساءل: كيف سيربط بين الزمنين والحكايتين؟!

في الفصل السادس من الرواية يتعرف القارئ على شخصية جديدة هي إلياس. وينتقل السارد بالقصة في الفصول التالية من مكة إلى لوس أنجلوس ثم إلى اليمن، قرية العرش تحديدا. تدريجيًا ستجد إشارات إلى هوية إلياس وارتباطه بقرية العرش. ستعرف كيف تحولت قرية "العرش" من مكان مأهول بالسكان والحياة إلى مكان صعب المنال، والوصول إليها يتطلب مغامرة أصعب من تسلق جبل في المريخ. لا يمكن فهم هذا التحول إلا من منظور عجائبي يتخلل السرد الواقعي من حين لآخر.

مع تشعبه في الأحداث التالية أبقى على مصير الطفل سعيد معلقًا ليكون عنصر تشويق يضاف إليه عنصر آخر يتعلق بالسر الذي يقف وراء هلاك جميع من في القرية موتًا أو جنونًا. ويمكن أن نرى في هلاك قرية العرش بساكنيها وبقاء الطفل الأعجوبة دلالة على استمرار الجهل والخرافة. لكن هذا الطفل سيختفي في الفصول التالية للفصل السادس.

تحولت القرية إلى مكان عجائبي تلتهم كل من يدخلها. لكن ليس الجميع! ثمة ثغرات لم يتمكن الكاتب من ملئها بتفسير مقنع مثل: لماذا مات الرائد خالد عند رؤيته للكنز الذهبي بينما لم يمت الآخرون بعد عثورهم على جثته بساعات؟! وما هو سر موت بعض من دخل قرية العرش؟ ولماذا مات بعضهم وعاش الآخرون؟!

لغز القرية سيستدعي تدخل بعثة علمية أمريكية. بوصول البعثة العلمية الأمريكية إلى قرية العرش سيتضح الفارق بين العلم والجهل. فارق كبير سيعبر عنه كولن، أحد أفراد البعثة، بالتالي: "كنت أظن أن هذه الأشياء تُرسل لكواكب أخرى غير الأرض." وسيرد عليه (رالف) ساخراً: "ومن قال لك إننا على الأرض." في إشارة إلى التخلف الشديد الذي تعاني منه القرية إلى درجة لم تعد تشبه الأرض!

في حادثة قتل الجندي وزوج مريم، ستكشف رسالة زينون عامير حازقيال جانبًا واقعيًا مما حدث له ولزوج مريم ومرافقه الآخر، في الوقت الذي ستؤسطر أحداثًا أخرى مثل القدرات الخارقة لجلود من تم قتلهم في قصة الأخدود، واصطفاء زوج مريم من قبل الله..! ستروى الرسالة ما حدث فعلا لزوج مريم التي سبق وأن أشار السارد العليم إلى خوارق تكتنف قرية العرش واللعنة التي تحل على كل من يدخلها.

الحادثة الثانية هي حادثة مقتل الجندي كارل، الفني المسؤول عن المولد الكهربائي. ثمة روايتان مختلفتان تماماً عن كيفية مصرع الجندي، يصفهما السارد العليم بقوله "والغريب في الأمر أن كلتا الروايتين صحيحة وصادقة إلا أن إحداهما كانت هي التي حدثت فعلاً!" الرواية الأولى هي شهادة الجندي (سميث) كما رواها بشفتيه ومن منظوره، والرواية الثانية "تنفي ما رواه (سميث)"، وهي مبنية على ما أظهرته التحقيقات "وما التقطته عدسات الكاميرات.." من "أن الجندي (سميث)، والمتهم بقتل زميله (كارل) كان يتكلم مع نفسه قبل أن يقدم على قتل زميله متعمداً،" وجاء "تقرير الطبيبة النفسية (شانا ديل)، ليبين أن (سميث) يعاني من اختلال في الفص الصدغي الأيمن في دماغه نتيجة للإرهاق وشحة النوم،" هذا التقرير الطبي الذي يصف حالة سميث يعطينا فكرة عما حدث لبقية من لقي مصرعه في القرية. في التقرير دلالة إلى أن ثمة تفسير علمي لما حدث، وأن الفارق بين الماضي والحاضر هو غياب الأدوات والكوادر العلمية القادرة على تحليل الحدث. وسيكشف السارد العليم أن الجندي المقتول كان (كارل) "وليس (توم) كما قال سميث، أما (توم) فكان نائمًا "على فراشه وقت الحادثة!" هذا التكذيب يضيف شاهدًا آخر إلى أن الرواية الشفاهية لا يُعتد بها ولا بد من شاهد علمي محايد لا يكذب.

السارد العليم مشارك في هذا الخلط أو المزج بين ما هو حقيقي أو علمي وما هو خرافي، والهدف من هذا المزج، كما أراه، هو خلق واقع سحري يثري به الرواية. وأحداث قرية العرش تشبه ما تم ترويجه من قصص في ما صار يسمى بـ "لعنة الفراعنة". وزوال اللعنة التي حلت بقرية العرش سيزول، كما أخبرت (كاترين ج باركر) "بعد أن ينتصر الإيمان على الإله!" إشارة أخرى نقدية ترفع من شأن العقل، إذا فهمنا أن النصر يعني فصل الإيمان عن الإيديولوجيا.

يقدم الدكتور روس تفسيره العلمي لما يحدث في قرية العرش... لكنها تبقى من وجهة نظره مجرد نظرية، ورب نظرية تفسر وتسعى للحل خير من جهل عاجز. لكن بقدر ما أن هناك تفسير علمي لكل ظاهرة غامضة بقدر ما يوجد جوانب خفية أو ألغاز لم يحلها العلم وإن حاول تقديم نظرياته وفرضياته، وهذا ما تعمله الرواية عبر ساردها العليم الذي يستفيض في الأسطرة كلما قدم العلم تفسيرا أو حلًا لظاهرة، في صراع بين العلم والجهل يستمد شرعية بقائه من لغز الوجود وظواهره المحيرة.

ثمة جانب خطابي في السرد، لكن إدارة الأحداث مشوقة. ومن مشاكل الرواية انزلاقها، في بعض المحطات، إلى الخطاب الديني المباشر الذي يدعي امتلاك الحقيقة ومن جانب آخر ينتقد السارد هذا التوجه.

صراع العلم والجهل

تبدأ الرواية في نجران في السادس من مايو533م. تحكي في هذا الفصل قصة أصحاب الأخدود المشهورة في القصة القرآنية. نتعرف في هذه القصة على شخصية متخيلة هي "سيلبا" التي ستظهر في القسم الثاني من الرواية لتكشف عن عمر مديد لا يمكن أن يكون لبشر، وبعكس حروف اسم الشخصية يتضح للقارئ حقيقتها[ii].

يمكن ربط قصة الأخدود بواقع اليوم، على نحو تأويلي يفيد بأن العقلية التي أنتجت قصة أصحاب الأخدود هي نفسها التي مازالت تنتج الخرافة وتصدقها، وأن أكثر من ألف وخمسمائة عام لم تستطع محو الخرافة؛ لأنها وليدة العقلية نفسها التي لم تتغير.

تحمل الرواية عنوانًا فرعيًا تحت العنوان الرئيسي، هو "ليس بعد الجهل خطيئة"، وهذا العنوان هو ما يحدد رؤية الرواية والغاية منها والمحركة لكل أحداثها. يدور الصراع بين خطابين: خطاب العلم وخطاب الجهل والخرافة. يحمل العنوان الفرعي نقدًا للجهل يتوقع معه القارئ أن تنتهي الرواية بالانتصار لخطاب العلم.

في سياق تفسير ما يحدث في القرية من غرائب تغلب النظرة اللاعقلانية التي ترجع كل خلل في الواقع إلى الابتعاد عن الدين: "كانت الاستنتاجات والآراء كثيرة... كلها تصب في قالب الجهل،" أما سبب هذا فهو أن "لا أحد في (العرش) حصل على تعليم أكاديمي سوى الشيخ (عبدالإله) و(محمد عبدالكريم) شقيق (عباس)."

مكان الأحداث الرئيسية هي قرية العرش، وسواء كان الاسم متخيلًا أم حقيقيًا، فيمكن أن نرى فيه اليمن كلها. فـ "الجهل كان ولا يزال هو آفة اليمن الكبرى والمعضلة الرئيسة في طريق تقدمها... كيف لا والعلم حياة... انتهى النقاش، وصمت الجميع يصغون للشيخ (عبدالإله)..."

وسيتكرر نقد الجهل مرارا، كقول السارد: "الجهل مرتع البلهاء." وقوله: "لا تتواجد القاعدة إلا في مكانين هما الجهل والتعصب." لكن ثمة فصل لقرية العرش عن اليمن في قول السارد: "الفترة التي عمَّ فيها الخير أرجاء اليمن كلها باستثناء بقعة صغيرة من الأرض اسمها (العرش)." هذا الفصل يحرم الرواية من رمزيتها الكلية ومن نظرتها العامة.

يبدو أن الواقع المرير قد جر الكاتب للانتصار لما هو كائن لا إلى ما ينبغي أن يكون؛ ولذلك ينتصر في الأخير لواقع الجهل والخرافة على حساب الرؤية المتخيلة التي كان يفترض أن تنتصر للعلم والعقل؛ بخاصة وأن العلم مستورد من واقع آخر أثبت فيه هناك سيادته. رغم ذلك لا يخلو مضمون الرواية من جانب رؤيوي كامن في مصير قرية العرش التي كان الجهل سببا للكارثة التي حلت بها، بلسان حال يقول: إن مصير أي بلد يسوده الجهل لن يختلف عن مصير قرية العرش.

ضبابية الرؤية

في معرض الانتصار للعقل والعلم هناك إشارة إلى "السيَنتولوجيا"، "معتقدات تؤمن بأن البشر هم نتيجة ذكاء جاء من الفضاء، وأن من أوجدهم هم كائنات فضائية متطورة." وفي السياق العلمي نفسه تقول الدكتورة سارة: "نحن من صنع كائنات فضائية.. أنا واثقة من ذلك أكثر من ثقتي بالهراء الذي جاء به (يسوع) أو أي نبي آخر." في المقابل ثمة إعلاء لشأن النبي محمد على لسان إلياس الذي ظل يدافع عن الإسلام والقرآن وخطابه العقلاني المعتدل بقراءة انتقائية تجد ما يدحضها من النص نفسه لو أن صوتًا نقيضًا كان ضمن شخصيات الرواية. لكن على ما يبدو أن المعتقد الشخصي قد جر الكاتب لينتصر لما يؤمن به وسهل عليه انتقاد المعتقدات الأخرى! وهذا مؤشر على خلل في التشبع بالفكرة الرئيسية أو الرؤية التي حددها الكاتب في العنوان الفرعي للرواية؛ فالمرء أيضا عدو ما يجهل.

في سياق الصراع بين الخطاب العلمي والخطاب الخرافي نقرأ عبارة مبهمة "بعد أن ينتصر الإيمان على الإله"! وفي صيغة أخرى (يجب تفجير البئر "قبل أن يقهر الإيمان الإله")! قبل أم بعد؟! ثم "ماذا يعني ذلك؟!" سؤال وجهه (إلياس) للدكتور (رشاد)، والذي فسر العبارة بأن رددها كما هي: "يجب تفجير البئر قبل أن يقهر الإيمان الإله."!

تنتهي جولات الصراع بين خطابي العلم والجهل إلى انتصار الأخير عبر قوة الطبيعة. تعجز آلات العلم عن التخلص من الكائن الأرجواني لتتدخل الطبيعة. "وجاءت الصاعقة، لتهلك ذلك الكائن الأرجواني العملاق، وتحوله إلى قطعة لحم بحجم كف طفل صغير استقرت على السور." نهاية تختزل المشكلة بتدخل عجائبي، لا عيب فيه، لكنه تدخل يكشف عن رغبة في الخروج من مأزق الأحداث أو عن انفلات السرد وعدم القدرة على التحكم فيه لصالح رؤية محددة في العنوان الفرعي للرواية "ليس بعد الجهل خطيئة" وفي بعض العبارات التي تخللت أحداث الرواية.

مشكلة اللغة قابلة للحل والرواية من منظور إدارة الأحداث والحكاية جيدة ويبدو أن الانشغال بهذا العنصر فقط هو الذي أنتج مشكلتها الأكبر في نظري وهي خلل التشبع بالفكرة.

 



[i] وصلت رواية "العرش" إلى القائمة القصيرة في الدورة الأولى لجائزة السرد اليمني (حَزَاوي) 2022م، ورُشِّحت للنشر من قِبل لجنة التحكيم قبل أن ينسحب كاتبها. كتبتُ المسودة الأولى لهذه القراءة في نوفمبر 2022 وهي مبنية على النص الذي أرسله الكاتب للمشاركة في الجائزة وكان الهدف من هذه القراءة هو الاستئناس بالملاحظات قبل نشر الرواية. باطلاعي على النسخة الإلكترونية المحدثة من الرواية التي وزعها الكاتب ثبت أنه عمل بأهم ملاحظة في مادتي هذه، تلك المتعلقة بانقلاب إلياس إلى معالج بالقرآن.

[ii] سيلبا هو اسم مشتق من معكوس كلمة إبليس.

تنويه: وصلت الرواية إلى إيميل الجائزة يوم الأحد 17 أكتوبر 2021م ومن خلال التواصل مع الكاتب وقتها تبين أن الرواية قد استخرج لها الكاتب رقم إيداع من السودان كما صمم لها غلافا (أعلاه) وجدناه وقتها على موقع مكتبة نور، الغلاف مع اسم الرواية ووصف للرواية بدون النص.