رواية الظل والعاشقة: فضاء مفعم بالتأملات الفكرية والتاريخية
مها شجاع
للوهلة الأولى، يُخيل لقارئ عنوان الرواية "الظل والعاشقة"، للروائي والأكاديمي اليمني أحمد السري، أنه قد وقع أمام رواية عاطفية تعالج قضايا الحب والعشق.. إلا أنه حين يغوص فيها يجدها على عكس ذلك. وهذا لا يعني أنها لم تتطرق لحكاية الحب بل ناقشته من منظور جديد إلى جانب العديد من القضايا التي سيتم طرحها في هذه القراءة.
البعد الرمزي للعنوان
يُعرف الظل بأنه "المساحة التي تحجب الضوء عن شيء ما لوجود حائل بينه وبين مصدر الضوء، وهو مساحة لا شكل لها إلا بعض ما تكتسبه تبعًا لشكل الشيء الذي تسقط عليه أشعة الشمس.. والظل هو الذي يشكل الخيال، وتتعدد أشكاله، فيأخذها لتبدو مثيرةً للاهتمام بحد ذاتها، ورغم أنه يشتبه بالأصل، وهو أمر لا مفر منه، إلا أنه في شكله شيء آخر له جماله الخاص وحضوره المميز، فهو يتبع الضوء فيتحدد على الجهة المعاكسة له."
في كثير من الحضارات "نجد الظل قريبًا للغموض والسر والموت، كما يكرس معنى الظل كرديف للخطر والهيمنة السرية. وحتى فيما يتعلق بهذه الحياة الدنيا، فإن تفاعل الثقافات مع الظل لم يسلم أيضًا من فخ الخرافة، فالخطو على ظل الزعيم أو الكاهن الممتد على الأرض كان يعد خطيئةً كبرى عند كثير من القبائل البدائية حول العالم، باعتبار الظل امتدادًا روحيًا وغيبيًا لجسم صاحبه. وفي أوروبا، خلال العصور الوسطى، ومن المنطلق نفسه، كان يُعاقب ظل النبيل عوضًا عن جسمه كإجراء تحايلي يجنبه الأذى الفعلي. هذه الممارسات والمعتقدات، بغض النظر عن منطقيتها، إلا أنها تلفت انتباهنا للقيمة الأسطورية والغيبية للظل، والتي انعكست حتى مع تطور المعارف على المنتوج الفكري والفني للإنسان المعاصر."
مع تطور تقنيات السرد وظهور القصة والرواية ترسخت بطولة الظل كمقابل نظري للغموض والسوادية في تركيبة الشخصية القصصية.
ومع تطور تقنيات السرد وظهور القصة والرواية ترسخت بطولة الظل كمقابل نظري للغموض والسوادية في تركيبة الشخصية القصصية. نتذكر قصة "صاحب الظل الطويل" حول فتاة تغرم بظل رجل، تحب الرجل وتقترب منه في نهاية القصة، لكنها لا تعرف شخصيته الحقيقة إلا متأخرًا جدًا.
وأصبح الظل يعبر عن الشخصية الافتراضية، وهو تعبير دارج في السياقين الشعبي والأدبي. ولعل الكاتب كان يدرك كل هذه التفاصيل وقد وظف الظل في روايته توظيفًا يدل على خبرته الواسعة واطلاعه الكبير على الثقافات المختلفة. نجد الظل في الرواية ظلاً مباركاً؛ فهو ظل لشجرة الغريب، تلك الشجرة التي يقال إن عمرها يتجاوز الألفي عام قبل الميلاد. ويأتي الظل في الرواية رمزًا للجهل والتخلف. والكاتب بهذا يحاول نفض غبار الجهل والتخلف ويخلق الضوء من بين ثنايا روايته "الظل والعاشقة". أما العشق فيرمز للحرية والانفتاح على العوالم الأخرى.
رواية أم تاريخ؟
ما إن يسبر القارئ أغوار الرواية حتى يجد نفسه أمام رواية هي أشبه بأدب الرحلات؛ فهو أمام مغامرة متجددة وثرية بالكثير من الأحداث والشخصيات. رحلة كتبت بلغة سهلة ممتنعة يسرد فيها الكاتب أحداثاً تاريخية مرت بها اليمن في فترة من الفترات، ويتحدث عن العادات والتراث والتقاليد والأفكار والخرافات وعن حال المرأة في تلك الفترة وكيف تغير الوضع بعد ذلك. ويتخلل كل تلك التوصيفات وصف بديع للحياة اليومية والطبيعة الساحرة، ليجد القارئ أنه قد وقع تحت وطأة الظل فلم يعد يدرك أيقرأ رواية أم تاريخًا؟ فروائح الزمن تضج من كل أرجاء الرواية.
الظل في الرواية مبارك؛ فهو ظل لشجرة الغريب، التي يقال إن عمرها يتجاوز الألفي عام قبل الميلاد. ويأتي الظل في الرواية رمزًا للجهل والتخلف، أما العشق فيرمز للحرية والانفتاح على العوالم الأخرى.
برع الكاتب في سلب لب قارئه وشد انتباهه ليدفعه فضوله للغور في دهاليز قصته، كما أجاد سرد التفاصيل بأسلوب ساحر وبديع. يسعى القارئ إلى تحليل النفس البشرية وعواطفها عله يجد مبرراً ودافعًا قويًا يُبرر هذا العشق الغريب! لكنه يفاجأ أن الكاتب قد تكفل بذلك أيضاً.
تجري أحداث الرواية حول قصة حب عجيبة، قلَّ أن نجد لها مثيلا ً؛ فبطلة الرواية شجون العجوز، أو التي صارت جدة وهي في عمر الأربعين، تعشق شاباً يصغرها بخمسة عشر عاماً. يجد القارئ نفسه في حيرة، وتتوالى عليه الأسئلة: أي حب هذا الذي يطرق قلب تلك الجدة؟ وما هي تداعيات القصة؟ وكيف شبت نيران الحب في قلبها في هذا العمر بالتحديد؟!
تتحدث الرواية إذن، عن امرأة أربعينية يطرق العشق أبواب قلبها فتطلب من زوجها (لقمان) الطلاق! لكي تتزوج من سليمان الخضري. تمكن الكاتب من تسويغ هذا الحب لقارئه من خلال الغور في أعماق الصوفية؛ فالحب حين يصيب القلب فإنه لا يحتاج لزمان ومكان وعمر معين، وأنه لن يفرق بين شاب مراهق وبين كهل عجوز، فما دام القلب ينبض بالحياة فإنه لا محال سينبض بالحب.
يجد القارئ نفسه أمام حبكة درامية من نوع جديد، فهذه العاشقة قد جُنَّت لا محالة كونها تجاهر بهذا العشق غير مبالية بالعرف المجتمعي وقيود العيب وغيرها من عادات مجتمع محافظ كاليمن.
شخصيات متنوعة
ضمت الرواية العديد من القصص والشخصيات التي بدورها أثرت الرواية.
شجون في الرواية تتمتع بشخصية قوية وجمال فائق، لديها ثقافة واسعة؛ كيف لا وهي من مواليد مدنية عدن ودرست على يد عمها الصوفي. أما لقمان الهلالي فرجل مثقف وحكيم درس علوم الزراعة في موسكو، برز في الرواية رصيناً ومحافظاً على ذاته وقيمه في آن واحد. أما سليمان الخضري فهو شاب من قرية مجاورة توفي والده فاضطر بعد ذلك للعمل بعد أن أنهى دراسة الثانوية، وكان يأمل أن يكمل دراسته الجامعية إلا أنه وعلى حين غفلة وجد نفسه العائل الوحيد لأُسرته. سليمان من ناحية أرض الغمام، من قرية مجاورة، متزوج ولديه أربعة أبناء. بعد وفاة والده عمل كبائع للخضار والفواكه، يجوب القرى على ظهر حماره أكثم.
وهناك شخصيات أخرى تتصل بأبطال هذه القصة: عزيزة صديقة شجون ومستودع أسرارها. وزوجة الفدائي في عدن. لا أعلم لمَ غفل الكاتب عن توضيح قصته بشكل أعمق! كما نجد أشرف نور الدين، وزوجته وردة، الذي نزل لقمان وزوجته ضيفين عنده لأيام أثناء رحلتهما إلى شجرة الغريب؛ للاستمتاع بظلها الذي يُعد آية من آيات الخالق البديع. كما نجد عبد اللطيف الصوفي عم شجون المتصوف، والمهندس أكرم، وجميل عبد الرب، موظف الهيئة العامة للسياحة في المنطقة، والذي يروي قصصاً خرافية حول الأمكنة وتحديداً شجرة الغريب؛ ليستقطب الناس لزيارة المنطقة. كما نجد عبد السلام، ورقية، الذين التقى بهما لقمان عند شجرة الغريب وهما قريبا سليمان الخضري. كما نجد الشيخ الأزهري وحفيدته زينب.
تظهر براعة الكاتب اللغوية من خلال اختيار أسماء الشخصيات وتسلسل الأحداث وعرضها بأسلوب مشوق غير ممل. ويؤكد الكاتب فكرة أن لكل من اسمه نصيب: لقمان: رجل حكيم ورصين وهادئ، تحمَّل من شجون ما لم يحتمله رجل من زوجته. أما شجون فيعكس اسمها العشق والحب والشجن والرقة والجمال، ولها سحر خاص وصاحبة الضحكات الرنانة المليئة بالشجن أيضاً.
تصور لنا الرواية تقلبات وتحولات الأرض والإنسان بين المدن والريف وبين بساطة الإنسان ووعورة الأرض والوديان.
مضامين الرواية
في الرواية العديد من القصص التي أثرتها وأضافت إليها الكثير من المتعة، ومن هذه القصص: قصة الشيخ صنعان، وقصة والد شجون، وقصة الأميرات السبع التي رواها جميل والعديد من القصص الأخرى. وقد أفرد الكاتب مساحات كافية لكل تلك الشخصيات دون أن يشعر القارئ بالضجر أو الملل.
تتحدث الرواية عن خرافات جبل الظل وشجرة الغريب وظلها، وعلى الرغم من أن كل من لقمان وشجون لا يؤمنان بخرافة الظل وشجرة الغريب وكرامات ظلها العجيب، إلا أن لقمان يصر على اصطحاب زوجته شجون إلى هناك فلعل هذه الرحلة تغير تفكيرها وتعود إليه كما كانت!
هنا تظهر مهارة الكاتب فنجده يتسلسل في سرد القصة بصورة ممتعة وبديعة. نجده يصف لنا منطقة جبل الظل وحالته الصوفية حين رأى تلك الطبيعة الخلابة، كما نجح أيضاً في جعل القارئ يعيش معه تلك التجليات الصوفية حين شرع يسرد شعوره في تلك اللحظات بأسلوبه الصوفي البديع.
هنا يجد القارئ نفسه في حيرة أخرى وتداعيات مختلفة! فما قصة هذا الظل؟ وهل حقاً له بركات كما يشاع وهل لقمان صدَّق خرافة الظل؟ أم أن سحر الطبيعة قد لامس شغاف قلبه المكتظ بوجعه؟! كيف لرجل أن يحتمل ما احتمله لقمان من زوجته شجون التي تجاهر بعشقها! لكنها على الرغم من احتراقها بنار العشق لم تخن لقمان وكانت تريد الخلاص منه لتتزوج بسليمان الخضري!
في ظل كل تلك المجريات وغيرها يبحر القارئ في تجليات الظل والعشق وفي فضاء مفعم بالتأملات الفكرية والتاريخية. تصور لنا الرواية تقلبات وتحولات الأرض والإنسان بين المدن والريف وبين بساطة الإنسان ووعورة الأرض والوديان، فنجد الصراع ما بين الأنا والآخر حاضر وبقوة.. فشجون يسدل أمامها الستار وتكشف أمامها الحقائق لتجد أنها قد وقعت في عشق كاذب، حينها فقط تقرر أن تبقى كما هي! ولا شيء يعيق حريتها.
ناقشت الرواية من خلال قصة الظل والعشق العديد من القضايا النفسية والمجتمعية والدينية والسياسية بقالب رمزي جميل. صوَّر الكاتب حياة الناس وحواراتهم، كما صوَّر المجتمع اليمني فكرياً وسياسيًا وصوفيًا بلغة أدبية رصينة، وعبر عن حال المرأة في تلك الحقبة، حين لم تكن تجد حرجًا في الرد على السلام ومصافحة الضيوف والحوار وطرح ما يدور في رأسها من أسئلة شتى على أهل العلم والمختصين.
ناقشت الرواية من خلال قصة الظل والعشق العديد من القضايا النفسية والمجتمعية والدينية والسياسية بقالب رمزي ولغة صوفية.
لغة الرواية
تحتاج لغة الرواية إلى دراسة مفصلة وأن يفرد لها مساحة كبيرة في الوسط النقدي اليمني والعربي. نجد اللغة متنوعة من حيث دمج اللغة العربية ببعض المفردات العامية بل وتوضيح معانيها. كما نجد الأغاني الشعبية والتي أثْرت النص وزادت من جماله وأضافت إليه رونقًا خاصًا يخطف القلب والعقل معًا. تنوعت اللغة كذلك من خلال الاقتباسات التي تدل على سعة اطلاع الكاتب.. ليجد القارئ نفسه أمام رواية غلفت بطابع فلسفي ووجودي وواقعي واجتماعي.
في مجمل القول: من يقرأ "الظل والعاشقة" ستبهره لغتها التي كُتبت بقلم كاتب لم يأسره انشغاله باللغة الأكاديمية؛ فالكاتب أستاذ جامعي في قسم التاريخ لكنه يدرك تفاصيل الثقافات في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وهو خبير بأسلوب الحوار واللغة. أتت لغته عميقة وثرية ولم يقحم ذاته في تفاصيل السرد والأحداث. وهذا النأي الذاتي هو ما زاد من جمال الرواية؛ فقد نأى بنفسه خارج النص وجعل الشخصيات تتحدث عن ذاتها.