دواء واحد لجميع الأحزان دواء واحد لجميع الأحزان

 قصتان قصيرتان: أسماء عبدالرزاق

دواء واحد لجميع الأحزان

تدخل وهي تلهث وتجر أنفاسها كأنما تسحبها من وسط بئر عميقة...

تخطو، وبين الخطوة والأخرى زمنٌ كافٍ لأن تسترجع أوجاعها كلها..

تجلس أخيرًا على الكرسي وتغمض عينيها برهة ثم تفتحهما وتستجمع قواها لثوانٍ قبل أن تشرع في إجابة سؤال الطبيبة الجالسة على مكتبها المتواضع.. "هنا يا دكتورة"، وتشير إلى صدرها، ثم تستدرك: "وهنا" واضعةً كلتا يديها على بطنها..

يقتطع نفسها ثم تتوقف لتُكمل: "أجوافي"..

تصغي الطبيبة بصمت ويشدها لفظ "أجوافي" لدقته في وصف ما يحصل لهذه الأجساد المنهكة في هذه البقعة من الأرض.. ما يؤلمها فعلًا هو تكدس الأحزان في الأجواف المفرغة حتى فاضت.. وتبدلت أوجاعًا محسوسة لم تُذكر قبل في كتبِ الطب أجمعها..

-     ما بك يا خالة؟

-     بين العظام كأنما شيء يمشي!

-     مم تشكو يا عم؟

-     أشعر أن نجومًا تدور في رأسي!

-     ماذا يا جد؟

يقترب أكثر ليسمع السؤال. فتعيد الطبيبة:

-     أين الألم؟

تمتد شفتاه قليلًا في شيء يشبه الابتسامة، لكن الموقف ليس موضع ابتسامة، لربما كانت هذه طريقته في البكاء أو في التعبير عما يفوق البكاء..

تنقبض شفتاه مجددًا ويجيب ببطء..

-     كُلِّي..

هكذا يلخص الأعراض كلها، بكلمة واحدة، ليست أعراضه هو فقط، بل أعراض شعب بأكمله...

"كُلِّي"!

هل بقي عضو لا يتأوه!

هل بقي في تلك الأجساد جوف إذا ما بكت سُمع الصدى؟

ترفع الطبيبة قلمها لتدوِّن الشكوى في السجل..

لم يمر عليها مصطلحُ كهذا من قبل فتكتب بين قوسين "شكوى اليمني" هكذا وجدت طريقة تستطيع أن تختصر كل الأعراض التي سوف يسردها لاحقًا..

-     منذُ متى يا خالة؟

-     بدأ قبل خمسة أشهر وعشرة أيام في ظهيرة يوم الثلاثاء!

لا يعرف أهل هذه المدينة أعمارهم، لكن ها هي تعرف بالثانية الواحدة متى بدأ ذلك الوجع..

تواصل الطبيبة الإصغاء فهي تعرف التالي..

يجيب ابنها المرافق الذي يبدو متعلمًا بعكسها "بدأ يوم ٢١ نوفمبر"، يوم أن وصلها خبر استشهاد ابنها..

-     يا عم، كيف تبدو هذه النجوم في رأسك؟

-     تتحرك وتدور وتزعجني.

-     متى بدأت تزعجك؟

-     منذ عامين وشهر ونصف.

يجيب حفيده "يوم أن تلقى خبر استشهاد ابنه الرابع"

ينظر العجوز إلى الطبيبة.. كأنما أفاق بعد نوم عميق..

-     كان مثل البدر يا دكتورة، كان الروح والحياة.

-     هل سبق وشعرت أن (كُلك) لا يتوجع، يا جد؟

لا يفهم السؤال.. فيشرح له مرافقه بلهجتهم البسيطة.. يفهم ويجيب: "قبل ستة شهور كنت شابًا، لكن طرحتني الدنيا فجأة، يوم غاب ولداي في اليوم ذاته بقذيفة."

تشارك الممرضة في كل حديث: "ما عليه- تعني (لا بأس) - قدمت أنا ابني ايضًا.."

-     فراق الابن قطعة من النار يا ابنتي.

-     ما عليه!

-     أنهكني فراقهم الأربعة.

-     ما عليه!

-     ما عاد بجانبي أحد إلا الله.. ذهبوا كلهم..

-     ما عليه!

تكتب الطبيبة ملاحظاتها.. تعطي الأدوية وهي لا تدري أي دواء يُعطى للحزن؟

لا تعرف ماذا يخفف التيه بعد الفراق..

لا تدري ماذا تكتب من نصائح لحياة متزنة لأمٍ وأبٍ قدما ثمرة أعمارهما لموتٍ أسود لا يعرف أحد فيمَ ولمَ؟

كل بيت في هذه المدينة المكابرة مملوء بالحزن..

يقولها الرجال بصوت أجش لا يبدو أنه يأبه لشيء "قدمنا شهيدًا" وبنبرة أشد "شهيدين.. ثلاثة"!

وتقولها النساء بنبرةٍ تقطر أسى: "ابني شهيد" "زوجي شهيد".

ومع حروفهم الغليظة والرقيقة، على حدٍ سواء، تخرج رغبة أن يتوقف كل هذا الموت.. أن تستمر الحياة دون قرابين.. أن يشيبوا وبجانبهم ولد يداوي وابنة لها زوج يؤويها فلا تعود إليهم أرملة ببضعة أطفال تلقنهم صباحًا ومساءً: مات أبوكم شهيدًا.. ثم يغفون كل ليلة على كلماتٍ حماسية من وجوهٍ وراء شاشةٍ كبيرة فيرون في المنام أنهم مضوا على درب والدهم الشهيد.

تغلق الطبيبة السجل.. تنهض المريضة بتثاقل.. وهي تتشبث بورقة الوصفة، تخطو نحو الباب ثم تلتفت نحو الطبيبة وبرجاء متصنع تقول: هذا الدواء سيوقف الوجع؟

تود لو أن تقول لها: لا، لا شيء يوقف هذا الوجع اللامتناهي!

لكنها تقول: ربما.. ثم تستدرك بابتسامة: كوني واثقة..

لعل البسمة تضيء في "الأجواف" المظلمة بصيص نور!

..

دائرة الحزن

خُيِّل لي وأنا امشي في الطريق كالتائهة أن بيننا شيء مشترك....

العم صالح (مجنون الحارة) كان يمشي في الجهة اليمنى للشارع وأنا في الجهة المقابلة... وكان يهذي كالعادة ويذهب ويعود بلا هدف... وكنت لا أهذي.. ولا أذهب وأعود، إلا أني أجر قدماي بلا هدف أيضا...

خُيِّل لي أيضًا أنه ذات يوم اشتاق لأمه المسافرة.... ولم يشأ أن يعود للمنزل وهي غير موجودة تستقبله بابتسامتها الطاهرة... وشعر أنه دونها لا يمتلك مكانا يسكن فيه..

فظل يمشي ويمشي ويمشي..

وحين عادت... بعد زمن.. جلست كما كانت تفعل كل يوم على سجادتها وفي يديها المسبحة... وانتظرته... لكنه لم يعد...!

التفتُ إليه فإذا هو كعادته ماسك بقايا ثوبه المهترئ بيده.. وباليد الأخرى صرة ممزقة الأطراف..

وقد أكمل شوطه الثاني واستدار من جديد عائدا كأنما يؤدي مناسك واجبة!

لأول مرة أتأمل عينيه عن قرب.. حينما نظرت إليها شعرت أني أغور في مغارة بلا نهاية.. أو في دائرة مفرغة..

وددت لو أسأله عنها... أن أخبره أني واثقة أنها في إحدى النوافذ تترقب.. بعينين دامعتين.. قد يعيد الشوق إليه عقله مرة أخرى... كما سلبه منه ذات يوم.!

وددت أن أجلس إلى جانبه وأحدثه: أنا أيضًا أفتقد أمي التي هربت من الحرب إلى أرض بعيدة..

وأني لا أرغب بالعودة إلى منزل ليست فيه...

ربما أخفف عنه أو يخفف عني..

لم أفعل...

لأنه لم يتوقف.. ولم أشأ أن أقطع مناسكه..

وربما لأن الأفضل له أن يبقى هكذا...

لكني توقفت لبرهة أنظر إليه...

ونظر هو إليّ بعينيه الحائرة...

وتوقف لثانية..

ثم واصل دورانه...

وواصلت حزني!

..

- اللوحة: صورة غويا الذاتية مع الدكتور أرييتا، 1820. معهد مينيابوليس للفنون، صندوق إثيل موريسون ديرليب.