ثنائية الخوف الحقد في رواية سميتها فاطمة ثنائية الخوف الحقد في رواية سميتها فاطمة

نبيل الدعيس

 

ما أود أن أبدأ به هذه المقالة هو التأكيد أولا أنها ليست نقداً بالمعنى الأكاديمي للكلمة؛ فالمقالة لا تقدم تأطيراً للرواية بناءً على منهجية نقدية محددة مسبقاً، لكنها في الوقت نفسه ليست انطباعاً؛ بمعنى تلخيص أو إبداء رأي في رواية "سميتها فاطمة" للكاتبة مياسة النخلاني. إنها ببساطة إعادة قراءة تحليلية لنقطة في النص تبدو- على الأقل بالنسبة لي- جوهرية في صناعة الأحداث؛ ولذا فإن الخط الذي أتتبعه هنا لا يخضع لغير قوانيني التي أرى أنها ستخدم هذا الغرض، أو تساعدني وإياكم على اكتشاف لغز جديد تقدمه الرواية، بوصفها خلق لحياة موازية تحكمها قوانين عالمنا.

ثانياً، وهو الأهم للقارئ، أن الثيمة التي اخترتها للدراسة هي الخوف/ الحقد، وهذا لا يعني الخوف والحقد، لأن الشرطة المائلة التي وضعتها بوعي كامل، لتصف الخوف والحقد، لا كثيمتين منفصلتين ولكن كوحدة تجمعهما معاً بوصفهما- في أجزاء كثيرة من الرواية- ثيمة واحدة، تنفصل في أحيان فتظهر معالم كلٌ منهما باهتة، وتعود أحياناً للوحدة فلا تدرك أهذا خوف يخفي حقدًا أم حقد يخفي خوفًا!

هكذا تنمو شجرة الحقد/الخوف

يتضح هذا منذ الفصل الأول، حين يقرأ خالد آيات قرآنية من سورة يوسف، حيث يتناقش إخوة يوسف- عليه السلام- في طريقة للتخلص منه، هذا الحقد الذي يُعمي عقولهم وقلوبهم كان سببه، كما وضحت الآيات، استياء من حب أبيه له أكثر منهم، إنه خوف أن يستأثر يوسف بقلب أبيه، فيفقدون هم أي مظهر من علاقة الأب بهم. للوهلة الأولى يبدو هذا الخوف مشروعاً، لكن المشكلة هي ما نتج عن هذا الخوف، الحقد كان طريقة لا واعية نتيجة تضخم هذا الخوف دون أن يستطيعوا أن يتعاملوا معه، وكان الحل الأمثل للتعامل مع هذا الخوف، كما وضحت الكاتبة في استفتاح الرواية هو مواجهته.

وهكذا نعيش في الفصل الأول من النص مع خالد الذي تزوره كل مساء هلوسات وكوابيس لأطياف.. كل ما يظهر هنا هو خوفه العميق وتجلي هذا الخوف دون معرفة للسبب وراء هذا الخوف. وبينما ننتظر في الفصل الثاني معرفة أسباب هذا الخوف ننتقل إلى بيئة جديدة، في القرية التي ولدت بها أم خالد، فاطمة، وهناك حيث تعيش أسرة فاطمة أزمة حقيقة، بسبب عمها محمد الذي منع والدها من الميراث واستبد به حتى اضطر الأخير إلى مغادرة المنزل إلى بيت آخر صغير في القرية ولم يكتف بذلك بل استمر يعاير والدها بأن خلفته كلها بنات وأراد بالقوة أن يزوج أبناءه من بنات أخيه.

هذا الحقد الأعمى خوفًا من أن يتمكن أخوه المظلوم أن يتجاوزه، أو أن يعيش بسعادة رغم حرمانه من كل ما يستحقه، بينما يعيش العم/ الأخ الأكبر حياة كلها مشاكل رغم كل ما يملك، أو أنها رغبه بأن يسيطر على مصير كل أسرته، وخوفًا من التمرد. لكن ردة الفعل تحدد شكل الحقد الجديد، أقصد أن ردة فعل قائد، أبو فاطمة، الغير قادرة إلا على الهرب كمواجهة للحقد، كانت قد أعطت لأخوه الفرصة ليزيد من حقده وملاحقته لهم. كان الهرب الخائف يؤجج الحقد أكثر، وبالتالي كان قائد- بشكل أو آخر- مشارك في عملية الحقد التي توجه ضده.

لكن خوف قائد لم يتحول لحقد، أو هذا ما أتوقعه، ربما لأنه كان مقتنعاً بتبريرات أخيه، ولذا فقد عذره لكل الإساءات التي وجهها له، أو أنه كان أضعف من أن يحقد؛ فالحقد أيضا يحتاج قوة وحد أدنى من سواد القلب.

ضعف موروث

غادر قائد قريته واستأجر بيتًا صغيرًا في المدينة هروباً- مرة أخرى- من بطش أخيه، وعاش حياة سعيدة رغم قلة الحيلة فيها، وتعاظم المسؤولية. وبعد أن زوَّج بناته يحين دور فاطمة الصغرى. كانت ظروف زواجها مستعجلة وانتقلت فاطمة إلى صنعاء، لتكتشف أنها تزوجت من شخص يحقد عليها مسبقاً؛ لأنه كان يريد أن يتزوج من امرأة أحبها، لكن والداه أصر على تزويجه من فاطمة. والنتيجة أنه كان ينهال عليها بالضرب والشتائم.. لكن ما ذنبها؟ ولما كان يحقد عليها؟ ربما يخاف! يخاف أن يكتشف أن فاطمة امرأة جيدة فيعيش معها بسعادة وينسى المرأة التي أحبها يوماً فيؤمن أن قرار والداه رغما عنه كان صحيحًا؟ ربما!

تتسارع الأحداث ويظهر محسن، أخ زوج فاطمة (حسن). محسن رجل رقيق القلب وهو من يحاول دائماً أن ينقذ فاطمة من بطش زوجها حسن. ردة فعل فاطمة تجاه الحقد الذي يمارسه حسن عليها تشبه ردة فعل والدها تجاه حقد أخيه عليه؛ لقد خضعت تماماً فتضخم الحقد.

رزقت بابنها خالد، مات حسن بحادث، تزوجت أخوه محسن وبدأت من جديد تستشعر طعم السعادة من جديد. ومرة أخرى هربت فاطمة خوفًا من أن يتأثر ابنها خالد باكتشاف أن محسن ليس والده الحقيقي وأنه يتيم.

رغم كل العناية التي تحيط بخالد إلا أنه يكبر ليصبح منعزلًا وفظًا، على غير المتوقع، وهذا ما يجعلني أنظر لخالد كاستمرار لقصة أمه، فاطمة. خالد هو كل مشاعر الظلم، والخوف التي تسكن داخل فاطمة.

بسبب مشاكل بين خالد وعمه حسن- الذي رباه، والذي كان يظنه والده الحقيقي- انفصلت فاطمة وابنها خالد عن المنزل الكبير لحسن وعاشوا في منزل منفصل. هنا تعود القصة لخالد الذي يرى الكوابيس ويقرأ آيات من سورة يوسف، وهذا السرد الدائري جعل للرواية بُعدًا نفسيًا أعمق.

خالد كان يعاني من خوف وحقد ناضجان جدا، ربما لأنه الاستمرار الوجداني لكل معاناة وخبرات فاطمة. كان يحقد على محسن بسبب قسوة الأخير عليه، وعلى أبناء محسن، وفي لحظة ما حين أعمي الحقد بصيرته ويؤذي سعيد فإن كل الحقد الذي في قلبه يتحول لخوف، الخوف من أن يؤذي حقده الآخرين، شعور بالذنب أنه لولا لطف الله لكان قد أصبح قاتلاً بسبب حقده، إنه النسخة المحسنة من إخوة يوسف.

خروجه ووالدته من البيت الكبير إلى البيت الصغير كان بالنسبة لفاطمة هروبًا حقيقيًا- كما اعتادت دوماً- وهو هروب حقيقي لأنه هروب جسدي ووجداني، فهي كلما هربت تحاول أن تنسى سبب هروبها وتعيش حياة جديدة، مثلما فعل أبوها من قبل، لكن هذا لا ينطبق على خالد الذي كان هروبه جزئيًا، هروبًا مؤلمًا أكثر من كونه مفيدًا، هروب للجسد بينما ظل كل سنوات هروبه يعاني من كل الذكريات المؤلمة.

قد يكون هناك تطور طفيف بالنسبة لفاطمة، فهي في البداية كانت ترضخ تماماً للواقع الذي تعيش فيه، بينما في محنتها الأخيرة رغم هروبها، إلا أنها ظلت تبحث عن حلول لتخفف من حدة مشاكل خالد.

نموذج لمواجهة المخاوف

سعيد يظهر أخيراً، وكان من الممكن أن يعاني من الحقد أو الخوف تجاه ما فعله أخوه، لكنه لم يحقد، لقد تجاوز ذلك كله دون أن يهرب ويحاول النسيان، بل أن يتقبل ذلك ويستعد للانتقام إن تطور الأمر.

كان من الممكن أن يكون سعيد هو الشكل الأكثر نضجاً للتعامل مع ثنائية الخوف والحقد، لكنه ليس كذلك، إن البيئة المستقرة نفسياً- إلى حد ما- هي من سمحت له أن يتجاوز ذلك. لكن المثال النموذجي للتعامل هو خالد، لقد عاش طفولته في بيئة نفسية مدمرة، وهو أكثر من عانى من تبعات الحقد والخوف بسبب وعيه لهذه المشاعر، لكنه استطاع أن يواجهها رغم أنها دمرت حياته، وقد انتصر أيضاً كما نرى في ختام الرواية.

إن نقاش تطور ومنطقية هذه الثيمة لا يعني بالضرورة وعي الكاتب الكامل لها، ولكنه يدل، بما لا يدع مجالًا للشك، على تمكن الكتاب من عمله لدرجة حقيقية جدًا أظهرت ثيمات الواقع- لا كصدفة- ولكن كظهور منطقي يتطور كما لو أنه حي بيننا.

إن كان لا بد أن أنهي بخاتمة ما فهي إشادة بتماسك هذا العمل الذي يدل على نضج فني وفكري للكاتبة يدرس الحالة النفسية من الجذور التي أنتجتها، والتعامل مع تاريخها كأول خطوة للعلاج؛ فالحقد- كأي مرض نفسي آخر- لا يعالج بدون الوعي الكامل به.

وأخيراً، أبارك للكاتبة العمل والفوز بالمركز الأول بجائزة السرد اليمني (حزاوي)، وأتمنى لها التوفيق في أعمال قادمة.