بلال قايد
يقول نبيل سليمان "الروائي لا يقدم ألبوماً للصور، ولا دروساً فقط؛ لكن الروائي أيضا يبث إيديولوجية، نظرات، رؤية، مما يتصل بالعلاقات الانسانية، بالإنسان ومحيطه الاجتماعي والطبيعي أيضاً، بالتاريخ، وهذا الذي يبثه الروائي ليس إلهاماً ولا ذاتية خالصة، إنه انتاج فردي اجتماعي معين." (نبيل سليمان "وعي الذات والعالم، دراسات في الرواية العربية" ص 11)
استحضرت هذه المقولة وأنا أختم قراءة رواية "سميتُها فاطمة"... ولأن الأدب وسيلة فعالة لاستكشاف الصراعات النفسية والاجتماعية التي تعيشها الشخصيات في الواقع وتمثيلها في الأدب، والرواية بشكل خاص، تناقش هذه الرواية تأثير العادات والتقاليد في تشكيل هوية الشخصيات وتحديد مسار حياتهم، بالإضافة إلى سيطرة الأخ الأكبر وتأثيره على تجربة الشخصية الرئيسية.
سأقوم في هذا المقال بتناول العناصر المختلفة في الرواية وكيف تعكس هذه العناصر الصراع النفسي وصراع العادات والتقاليد وسيطرة الأخ الأكبر.
صدرت رواية "سميُتها فاطمة" للكاتبة مياسة النخلاني العام 2023م في 180 صفحة من الحجم المتوسط وهي الرواية الفائزة بالمركز الأول لجائزة السرد اليمني (حزاوي) في دورتها الأولى 2022م، وكانت الكاتبة اختارت عنوان "البيت الكبير" قبل أن يتغير عنوانها إلى "سميتُها فاطمة" حسب ما ذُكر في الحساب الخاص بالجائزة في الفيسبوك للأعمال المتأهلة للقائمة القصيرة في حينه.
رواية "سميتُها فاطمة" للكاتبة مياسة النخلاني تضع القارئ في عالم متشابك من الصراعات النفسية لبطلة الرواية "فاطمة" والعلاقات الأسرية المتشابكة التي تسيطر على حياة الشخصيات الرئيسية في الرواية: فاطمة، خالد، محسن، سعيد. (مع أن اسم الرواية "سميتُها فاطمة" إلا أن الشخصية الرئيسة هي "خالد" الذي يسير بالتوازي مع والدته فاطمة بل تمكن في بعض الأحيان من الانفلات منها ليصبح البطل الرئيسي.)
تتنقل الرواية ببراعة بين أحداث الماضي والحاضر، وتعرض لنا صوراً مؤلمة لمنظومة العادات والتقاليد من خلال شخصية الأخ الأكبر "محمد" والصراع الداخلي لشخصية الأخ الأصغر "قائد" وتأثير الصراع الداخلي على حياته وأثره على بقية الأسرة. وهو ما تداعى في الرواية من خلال السارد العليم.
تجسيد العادات والتقاليد
تحاول الكاتبة أن تنخرط في التحليل الاجتماعي، مقدمة تمثيلاً متنوعاً للشخصيات التي من خلالها تحاول تفكيك مفاهيم المجتمع التقليدي ذي الثقافة الذكورية العميقة، التي تربت في ظلها.
في هذا السياق تناولت الرواية حكاية ثلاثة أجيال بمختلف مستوياتهم وخلفياتهم الثقافية، ويدور الصراع في الجيل الأول بين "قائد" وأخيه الأكبر "محمد" الذي استولى على تركة والدهم بحجة العادات والتقاليد، التي تعطي للأخ الأكبر سلطة غاشمة، يعمد عبرها للسيطرة على حياة إخوته ومستقبلهم كذلك. وفي حين استسلم البقية لهذه السلطة، رفض قائد هذه السيطرة واختار الابتعاد عنها وعن القرية والتخلي عن ورثه من أبيه. هذا المحور الأساسي في الجيل الأول في الرواية، وفي هذا المحور يتمثل الصراعان: "الداخلي"، الذي تمثله معاناة قائد؛ لأنه لم يخلف إلا أربع بنات، وفي العرف القبلي أن من يخلف الفتيات يظل الطرف الأضعف، وطرق تفادي الصراع الخارجي مع أخيه من أجل الحفاظ على بناته وحمايتهن من سيطرته، حيث يرغب أخوه بتزويج بناته قائد بأولاده دون الرجوع إليه.
لذا يهاجر قائد لمدينة تعز هروباً من سيطرة أخيه وحماية لبناته ومستقبلهن، "كأن القرية قد عدمت الفتيات فيها، ولا يوجد غير بنات قائد ليزوج أولاده منهن" ص 35، ومن هناك يلاحق الحياة حتى يعيش هو وبناته بعيداً عن سيطرة أخيه الذي ظل يلاحقه حتى في المدينة، وحتى يقطع الطريق عليه يقوم قائد بتزويج ثلاث من بناته ممن تقدموا لهن، عدا فاطمة.
فاطمة بين الرغبة والأمان:
في محاولة للاطمئنان عليها يقوم قائد بتزويج فاطمة من حسن، وهو ابن إحدى الأسر الميسورة؛ وحيث أن هذه قد رفضت أن يتزوج ابنها بمن أحبها؛ فقد أسقط حسن هذا الحرمان على حياة فاطمة معه، والتي ظلت تتلقى الصدمة وراء الأخرى فابتداء من وفاة والدها ليلة زفافها وهي الصدمة الأولى، كانت صدمتها الثانية معاملة حسن العنيفة لها: "لم يكن أمامها سوى الصبر على طباعه التي لا تطاق والتي تعدت الشتيمة لتتطور في وقت لاحق للتعدي بالضرب." ص 4. يدور الصراع هنا داخل فاطمة متحسرة على الأمان الذي عاشت فيه مع أبيها رغم الفقر الذي كان فيه.
"محسن" الذي ظل يشاهدها وهي تتعرض للإهانة، في لحظة ما يتصدى لـ "حسن" الذي يحس بالإهانة، وتجنباً لتوسع الصراع يخرج غاضباً، لكن هذا الانفعال يجعله يقود سيارته بسرعة مما يتسبب بوفاته في حادث مروري في الوقت الذي تكتشف فيه "فاطمة" أنها حامل بـ "خالد".
عودة العقدة:
مع وفاة "حسن" يعود العم لأخذ فاطمة في محاولة للانتصار على أخيه "قائد" حتى بعد وفاته، ورغم ذلك يرفض والد حسن أن يعيدها له إلا بعد أن تضع حملها في محاولة لكسب الوقت حتى يجد حلاً.
تحاول فاطمة الهرب من محاولة التحكم في حياتها بعد وفاة والدها في ليلة زفافها ووفاة زوجها حسن لاحقاً في حادث بسبب مشاجرة بينه وبين شقيقه محسن انتصر فيها محسن لفاطمة التي كانت تتعرض للإهانة من حسن.
تتصادم أمانيها ورغباتها بالقيود التي تفرضها عليها الأسرة والمجتمع والعادات والتقاليد المحيطة بها، وفي محاولة للهروب من سيطرة عمها، تجد فاطمة نفسها محاصرة بين الزواج من محسن شقيق زوجها الذي كان سبباً جانبياً لموت زوجها وبين العودة إلى سيطرة العم، ما يتوقع منها وبين ما تشعر به حقاً وتتوجس منه. تعيش في عالم يلومها على شيء لم تختره هي، بل اختاره المجتمع لها ووضع لها عادات وتقاليد تجرم من يخرج عنها.
تنجح الكاتبة في إظهار الآثار العميقة التي يتركها صراع العادات والتقاليد على فاطمة وعلى حياتها الأسرية، حيث تُجبر على اتباع سلوكيات وقرارات لا تتفق وإرادتها الحقيقية، مما يؤثر سلبًا على قراراتها وصحتها النفسية.
وكما تجلى الصراع في الجيل الأول يتجلى هنا في الصراع بين الرغبات الشخصية وما يفرضه المجتمع على الفرد ليضمن عدم خروجه على العادات والتقاليد. يجري صراع آخر بين الجيل الثاني والثالث من الأسرة بين خالد عمه وزوج والدته محسن بعد أن اكتشف أنه ليس والده.
خالد وسعيد:
تتعامل الكاتبة مياسة النخلاني مع هذا الصراع المعقد بشكل حساس وملموس، حيث ترسم صورة واقعية للتحديات التي تواجه خالد في سعيه لنسيان الدم الذي تسرب من سعيد بعد عراك بينهما، محاولته للنسيان أدخلته في مرحلة اكتئاب متأخرة بعد المرحلة السابقة بعد أن اكتشف أن والده ليس "محسن" بل "حسن" فيظل خالد في دوامة الكوابيس لسنوات بسبب حادثة العراك وفيها تتجلى طبيعة الانطواء التي سيطرت على خالد بسبب اليُتم الذي اكتشفه، إن الحزن الذي انطبع في ذهن خالد يساوي الحزن الذي أصاب محسن بعد تسببه بموت أخيه كأن الكاتبة أرادت أن تنقل المشاعر السلبية من محسن لشخص من نسل أخيه حسن!
تعرفنا الرواية على خالد كشخصية رئيسة وسعيد كشخصية عابرة رغم أن الصراع بينهما ركيزة أساسية في أحداث الرواية، يتشكل طوال الرواية وصف شخصياتهما والعلاقة التي كانت بينهما، فـ "خالد" يعاني من صراع داخلي بين مشاعرة التي يحملها لـ "سعيد" وبين مشاعر الصدمة التي اكتشف من خلالها أن محسن ليس والده.
الصراع بينهما هو "صراع نفسي" بالدرجة الأولى، فسعيد الذي انصدم بسبب ردة فعل خالد حين طالبه بالابتعاد عن شجرة البرتقال ووقوف والده معه ضد خالد، وخالد الذي تكونت لديه مشاعر اليتم واختلاف معاملة محسن له. يدور الصراع الذهني بينهما عن بعد، كل يفسر الابتعاد بطريقته ويختلق الأسباب لعدم لقائهما؛ رغم أن فاطمة طلبت من سعيد أن يقابل خالد عله يستعيد توازنه وعلاقته به وببقية الأسرة التي هجرها بعد الاعتداء على سعيد. لكن تجمعها الصدفة بعد مرض والدة خالد "فاطمة"، وهنا تتجلى العقدة التي بنت عليها الكاتبة أحداث الرواية لتصل إلى الانفراجة التي أوصلت الأحداث إلى نهاية سعيدة كعادة أفلام السينما الكلاسيكية.
الخلاصة:
تناولت الرواية رحلة النضال التي تخوضها الشخصيات لتحقيق تحررها من الصراعات النفسية وسيطرة العادات والتقاليد، تتطور الشخصيات عبر الرواية وتبدأ في التمرد على القيود المفروضة عليها، وتسعى لتحقيق حريتها وتحقيق انفلاتها من العقد النفسية التي تسببت بها البيئة المحيطة بهم والمجتمع.
إلى جانب أنها تخلص إلى أن الصراع النفسي وصراع العادات والتقاليد هي قضايا جوهرية تواجهها الشخصيات في الحياة الحقيقية، كما توفر رواية "فاطمة" للقارئ فهمًا عميقًا للمشاكل النفسية والاجتماعية التي يمكن أن يواجهها الأفراد في البحث عن هويتهم الشخصية وتحقيق تحررهم.
وتدعو الرواية إلى التفكير في تأثير العادات والتقاليد على حياة الفرد وضرورة السماح للنفس بالتعبير عن طموحاتها وتطلعاتها الشخصية.
باختصار: تمكنت الرواية من تسليط الضوء على التحديات التي يواجهها الفرد في محاولته لتحقيق التوازن بين الالتزام بالموروث الاجتماعي وتحقيق هويته الشخصية، والصراع الداخلي الذي تواجهه الشخصيات الرئيسية في الرواية.