إطلالة على الصراعات في الرواية اليمنية إطلالة على الصراعات في الرواية اليمنية

عبده منصور المحمودي

شاعر وناقد يمني

 

يزخر تاريخ اليمنيين- منذ أقدم العصور حتى اللحظة المعاصرة- بحروبٍ متعددةٍ، وصراعات دامية. منها تلك الحروب المقدّسة، التي خاضها ملوكهم؛ فتناقلت المروياتُ والمدونات سِيَر غزواتهم وبطولاتهم. ومنها تلك الصراعات، التي كانت تنشب بين طوائفهم المتقاتلة على السلطة والنفوذ. ومنها ما حفل به التاريخ الوسيط، من حروب بين الدويلات. كما أن منها منظومة الحروب المتناسلة، التي تنتمي إلى العصر الحديث.

وتوازيًا مع ذلك، عبَّرَ، ويُعبِّرُ، الكُتّابُ والفنانون والمبدعون اليمنيون، منذ أقدم العصور، عن كثيرٍ من سياقاتِ حروبهم وصراعاتهم وأزماتهم. من خلال: نقوشهم المسندية، وأشعارهم وأغانيّهم، ورقصاتهم. بما في ذلك، توظيفهم لأحدث الفنون الأدبية والتعبيرية، في تناول تجربة الحرب، التي تأتي الرواية في الصدارة من تسريدها.

 

تسريد مواجهة الغزو الخارجي

من الكتابات الروائية في اليمن، التي تعاطت مع تجربة الحرب، ما يتعلق منها بتسريد الأحداث التاريخية الخاصة بعمليات الغزو الخارجي لليمن. من ذلك، رواية "طريق البخور"([1])، التي تناولت الحرب من زاوية الحملة الرومانية على اليمن. ورواية "على خطى ملشان أريم"([2])، التي قدّمت نسقًا من التاريخ المتخيّل، ووظّفَتْه في تسريد مقاومة سيف بن ذي يزن للغزو الحبشي، الذي احتل اليمن.

وفي هذا السياق، تأتي الروايات التي عملت على تسريد الحرب المرتبطة بمقاومة الحكم التركي لليمن، من مثل رواية عبد الله عباس الإرياني "سُمّ الأتراك"([3])، التي قدّمت تسريدًا لمواجهة اليمنيين للتواجد التركي في بلدهم. ومثلها عددٌ من الروايات، التي تضمّنت سياقاتها السردية إشاراتٍ إلى هذه المواجهة، كما في رواية علي المقري "بخور عدني"([4])، التي كان من إشاراتها السردية تضمينها أغنية الأمهات التركيات النائحات، على أبنائهن الذين قُتلوا في اليمن. ورواية أحمد زين "ستيمر بوينت"([5])، التي كان فيها والد الشخصية "قاسم"، من المجنّدين في الجيش التركي أثناء احتلاله لسلطنة لحج.

 

تسريد الصراع والحروب الداخلية:

تسريد صراعات التاريخ الوسيط

تُعدُّ الحروب والصراعات الداخلية في اليمن سياقًا من سياقات رواية الحرب؛ إذ عالجت بعض الروايات أحداثًا من جولات الصراع في التاريخ القديم والوسيط، من مثل رواية "وقش"([6])، التي حاولت بُنيتها السردية الوقوف على أحوال فرقة "المطرفية" في اليمن، وتفاصيل الحياة الفكرية التي عاشها أفرادُها، وصور من مأساتهم التي قضت عليهم. ومثلها كانت عددٌ من روايات الكاتب محمد الغربي عمران، التي عمل فيها على تسريد بعضٍ من محطات الصراع الدموي، في حقبٍ مختلفة من التاريخ اليمني الوسيط.

 

تسريد أحداث فترة الحكم الإمامي

تعاطت عددٌ من روايات الحرب في اليمن، مع أحداث الصراع الداخلي، التي حدثت في فترة الحكم الإمامي. مثل رواية "نصف إنسان"([7])، التي كان من سياقاتها السردية، ما رصدَتْه من مسارات التحوّل الاجتماعي والسياسي، الذي أفضت إليه الاضطرابات والصِّراعات على السلطة وثروات البلد، بدءًا من انهيار الحكم التركي، واستلام الإمام يحيي بن حميد الدين مقاليد السلطة.

وفي السياق نفسه، تناولت رواية "الصعود إلى نافع"([8]) مرحلة حكم الإمام، وما ترتّب على سياسته من مقاومةٍ هادفةٍ إلى تحرير البلد من قبضته. كما عالجت رواية "الرهينة"([9]) الحقبة التاريخية، التي اشتدّ فيها نظام الرهائن، حينما كانت السلطة تحتفظ بهم لديها؛ من أجل الإبقاء على ولاء عائلاتهم للإمام، وضمان عدم خروجهم عن طاعته.

 

تسريد أحداث ثورة الدستوريين 1948م

مثّلت أحداث الصراع المتعلقة بثورة الدستوريين 1948- التي انهزمت، وزُج بكثير من قادتها في السجون، ثم تم إعدامهم- مادةً خصبة لسرديات الرواية اليمنية. منها رواية "مأساة واق الواق"([10])، ذات البُنية التراجيدية النائحة، التي عكست عذاب اليمنيين وبطولات المناضلين، في السجون والمعتقلات وساحات الإعدام ([11]).

ومثل ذلك، تعاطت رواية "الميناء القديم"([12])، مع محنة هذه الثورة، فقدّمت جانبًا من النضال الثوري بفنيّةٍ عالية؛ كون هذه الرواية "تفتح الطريق واسعًا لمعرفة وقائع التاريخ الحديث من خلال رؤية فنية تستثير وعي القارئ ولا تحاول أن تملي عليه أو تلقنه"([13]).

كما أن من الروايات التي وردت فيها سياقات من أحداث هذه الثورة: "صنعاء مدينة مفتوحة"([14])، و"زهرة البن"([15])، و"يموتون غرباء"([16])، و"هموم العم قوسم"([17])، و"المبشع"([18]). وغيرها من الروايات، التي رصدت تداعيات ثورة الدستوريين، وما لحق بهم من ظلم وتعسف، كاتهامهم بالكفر واختصار القرآن، والمأساة التي انتهت بها حياةُ كثيرٍ منهم، بين السجن والتصفية.

 

تسريد معركة "حصار السبعين"

استهدفت الرؤى السردية- في عددٍ من روايات الحرب في اليمن- تسريدَ أحداث معركة "حصار السبعين"، التي حدثت في صنعاء عام 1967. من مثل: رواية "السمار الثلاثة"([19])، ورواية "نهايات قمحية"([20]). ومثلهما رواية "على ضفتي المجرى"([21])، التي غاص تسريدها في المسارات التاريخية لأحداث هذه المعركة، منذ ثلاثينيات القرن الفائت حتى مطالع القرن الواحد والعشرين. بما في هذه الامتدادات، من سياقاتٍ متداخلةٍ متفاعلةٍ فيما بينها، متنوعةٍ بين مساراتٍ: أدبية، وثقافية، وتاريخية، وأخلاقية. وما يتشكّل من هذه المنظومة غير المتجانسة، من واقعٍ تدميري لكيان الدولة، وبُنيتها الحديثة، التي لا تزال غايةً بعيدة المنال.

 

تسريد مقاومة المستعمر والصراعات السياسية

من مضامين رواية الحرب في اليمن، الاشتغال على تسريد المواقف والأحداث المتعلقة بمواجهة المستعمر الإنجليزي لجنوب اليمن. من ذلك، رواية "سعيد"([22])، التي قدمت نموذجًا من الثّوار المهادنين، الذين ينتظرون معجزة انتصارٍ لا تأتي. كما تضمّنت رواية "مرتفعات ردفان"([23]) تسريدًا لموضوع الاستقلال، وسطوة السلاطين. ومثلها كان تسريد أبعاد الصراع في عددٍ من الروايات، من مثل: "طريق الغيوم"([24])، و"السمار الثلاثة"، و"الميناء القديم".

وقدّمتْ رواية "المكلا"([25]) تسريدًا للمحطات السياسية، وأحداثها الدموية التي عاشها جنوب اليمن. بدءًا من الكفاح المسلح ضد المستعمر، مرورًا بموجات الصراع والعنف الذي بلغ ذروته في أحداث يناير الدامي 1986، والتداعيات المأساوية التي تنوّعت بين: القتل، والاعتقال، والمحاكمة. وانتهاءً بقيام الوحدة اليمنية في عام 1990، وبعض الأحداث التي جاءت بعدها.

وكما كان لمأساة يناير الدامي حضورها في رواية "المكلا"، كان لها الحضور السردي نفسه في عددٍ من الروايات، التي تعاطت مع أحداثها: كرواية "الملكة المغدورة"([26])، ورواية "هذيان المرافئ"([27])، ورواية "فاكهة للغربان"([28]).

واتخذت عددٌ من روايات الحرب في اليمن من حرب صيف 1994- التي نشبت بين شمال اليمن وجنوبه- ثيمات محورية في اشتغالها السردي. مثل رواية "عقرون94"([29])، التي كشفت عن مأساوية هذه الحرب، وما ترتب عليها من تداعياتٍ فاتكةٍ بالنسيج الاجتماعي، وما أفضت إليه من تغيّرات جذرية في الحياة الاجتماعية والفكرية والسياسية. ومثلها تطرقت إلى هذا الصراع رواية "حمار بين الأغاني"([30])، وغيرها من الروايات، التي عملت على تسريد الأبعاد الكارثية المختلفة لهذه الحرب.

وضمن سرديات الصراعات السياسية، يأتي ما تعاطى من الروايات في اليمن، مع الحرب بشكل رئيس من زاوية تداعياتها الاجتماعية والوطنية، من مثل ما يترتب عليها من معضلةِ فقرٍ مطّردة، وإعاقةٍ دائمةٍ لمسارات التنمية في البلد. كما في سياقات رواية "جوهرة التعكر"([31])، التي انطلقت من تسريد هذه التداعيات الكارثية، إلى لفت الانتباه إلى مساحاتِ ضوءٍ، تمثّلتْ في شخصياتٍ وطنية، سعت إلى الارتقاء بالمجتمع، وتحديث بُنيته التنموية والثقافية والخدمية، لكن الظلاميين أجهزوا عليها. وقد أشار السياق السردي- في هذه الرواية- إلى نماذج من تلك الشخصيات، كالرئيس إبراهيم الحمدي واغتياله في عام 1977، وجار الله عمر واغتياله، في 28 ديسمبر عام 2002. وكذلك، اغتيال أطباء المستشفى المعمدانيّ، في 30 ديسمبر من العام نفسه.

                               

تسريد الصراع في مطالع الألفية الثالثة

دلف اليمن إلى القرن الواحد والعشرين، وفي جعبته أنساقُ صراعٍ متعددة، فكان العقد الأول منه مُثخنًا بحروب صعدة الست، التي حظيت بنصيبٍ من سرديات رواية الحرب، من مثل رواية "عقيلات"([32])، التي تضمنت سياقاتها السردية إحالةً على تجار الحروب. ثم أطل النصف الأول من عقده الثاني، بخليطٍ من الصراعات المتباينة، التي تعددت، فتنوّعت سياقاتُ تسريدها الروائي.

من ذلك، المساحة السردية التي حظيت بها الأحداث، التي اندلعت في اليمن في عام 2011؛ إذ تضمّنت رواية "ابنة سوسلوف"([33]) تسريدًا لأحداث ساحة جامعة صنعاء، لا سيما ما حدث من اعتداءٍ على المعتصمين فيها، وما ترتب عليه من استحواذٍ عسكريٍّ، على الانتفاضة الشبابية، التي كانت تسعى إلى إحداث التغيير المأمول.

ومثل رواية "ابنة سوسلوف"، تعاطت عددٌ من السياقات السردية في رواية الحرب، مع هذه الأحداث وتداعياتها. من ذلك، ما ورد من تسريدٍ لها في: رواية "سوق علي محسن"([34]). ورواية "ثورة مهيوب"([35]). ورواية "سنوات الوله"([36]).

وفي السياق الزمني نفسه- وعلى مسافاتٍ متقاربة من مداره السردي- يأتي تسريد الرواية في اليمن لظاهرة الإرهاب والتطرف الديني. من ذلك ما ورد من سرديّةٍ تخيليَّةٍ مُتعاطيَةٍ مع هذه الظاهرة، في رواية "أبو صهيب العزي"([37])، التي انطوت سرديتها على رؤيةٍ تحليليةٍ، سابرةٍ للعلاقة بين الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وفاعليتها- بمعية عوامل ومؤثرات محلية ودولية- في تنامي ظاهرة الإرهاب والتطرف الديني.

كما عملت على تسريد ظاهرة الإرهاب روايةُ "أغيلاس"([38])، بما فيها من محوريةٍ سرديةٍ لسمة القلق، التي تداهم البُنية الاجتماعية والثقافية، كُلما استجدّت بوادرُ الرغبة في تجاوز بعض المسارات السائدة، غير المُجدية، في التعاطي الواقعي مع مستجدات الحياة على اختلاف جوانبها.

 

رواية الحرب الأخيرة

اشتركت عددٌ من الأطراف الداخلية والخارجية، في تأجيج سعير الحرب الأخيرة في اليمن، التي اندلعت في مارس/ آذار 2015، ولم تنطفئ نارها حتى وهي تستهلّ العام العاشر من عمرها.

وقد كان لهذه الحرب دورها الفاعل في تحولات الكتابة الروائية في اليمن عامة، والروايات المتعاطية مع سرديات الحرب بوجهٍ خاص؛ إذ لم تحُلْ محنة الحرب دون تطور التجارب الروائية، التي تنوعت مساراتُ اشتغالها على جماليات الموضوع الروائي، والأساليب والتقنيات السردية([39]).

كما استمر الإنجاز السردي، في صدور عدد من الروايات في فترة الحرب. التي انفتح بها فضاءٌ ثريٌّ، لسرديات رواية الحرب في اليمن، التي شرعت في التعاطي معه، من مثل ما تضمّنته رواية "حفيد سندباد"([40])، من تسريدٍ لأحداث الحرب الدامية، التي جرت في شوارع مدينة عدن وأزقّتها. وكذلك، هي رواية "سبع نساء ونصف"([41])، التي سلطت الضوء السردي، على تداعيات الحرب وآثارها المأساوية في حياة المرأة اليمنية.

وفي السياق نفسه، قدمت رواية "تغريبة منصور الأعرج"([42]) الحربَ من زاوية الدور الفاعل للقبائل في إذكائها. ورصدت رواية "صاحب الابتسامة"([43]) صورًا من تداعياتها الاجتماعية الكارثية، ومثلها رواية "منتهاي"([44])، التي تعاطت مع أحداثٍ من واقع الحرب، وحقائقها المرعبة المُتَشَكِّلة من أحوال الناس، الذين فتكت بهم وبحياتهم ومحيطهم دمارًا وقتلًا ونزوحًا. والأمر نفسه، في رواية "زوربة اليمني"([45])، التي شمل تناولها للحرب تسريدًا للمتغيرات السياسية والاجتماعية، الفاعلة في تدوير الصراع، منذ سبعينيات القرن الماضي، حتى اندلاع هذه الحرب، في مطلع العقد الثاني من الألفية الثالثة.

 

تسريد الحروب الخارجية

تعاطت سرديات الحرب في الرواية اليمنية، مع حروبٍ وصراعات غير يمنية، فتضمّنت إشاراتٍ سردية إلى حروبٍ خارجية، سواء بصورتها العامة عالميًّا أو بما انعكس من تداعياتها في الحياة اليمنية. وفي كل الأحوال، فقد كان التعاطي- في هذا المنحى السردي- تعريجًا محدودًا على تلك الأحداث، وفي السياقات السردية الرئيسة، التي عَمِلَتْ عليها كلُّ روايةٍ، تضمّنتْ إشاراتٍ سردية إليها.

من سرديات الحروب الخارجية ما يظهر من تسريدٍ لأحداثٍ وتداعياتٍ متعلقةٍ بالحربين العالميتين الأولى والثانية؛ إذ تشير رواية "سعيد" إلى المشارَكة التطوعية، ضِمْنَ صفوفِ جيش الدولة العثمانية، في وجه الإنجليز والحلفاء، الذين تُقَدِّمهم الرؤية السردية- في الرواية- أعداءً للأمة العربية والإسلامية، وحائلًا دون وُحدتها وارتقائها. كما تضيء رواية "السمار الثلاثة" مساحاتٍ زمنيةٍ، جرت فيها بعضٌ من أحداث هذه الحرب، منها الإشارة إلى زحْف (هتلر) إلى "بولندا".

كذلك، تضمّنت رواية "يوميّات مُبَرْشِت"([46])، بعضًا من الإشارات السردية، إلى أحداث الحرب العالمية الثانية، مثل تعاطيها مع مُجريات الحياة في الأربعينيات- فترة هذه الحرب- التي عاشتْها مدينة عدن، وتأثرت بها، وبما سبقها من انهيار اقتصادي؛ إذ كانت المدينة خاضعة للسيطرة البريطانية آنذاك.

كما قدّمت هذه الرواية، "يوميات مُبَرشت"، من خلال شخصيتها الرئيسة- العامل المنتمي إلى الطبقة الاجتماعية المتوسطة- موضوعها، الذي تناول صورًا من حياة هذه الشخصية، التي تداعت مع موجة السعي في تيار أثرياء الحرب، فتحوّلت إلى "مُبرْشت"، و"البَرْشَتَة"، مصطلحٌ يعني "التهريب"([47]).

وتضمّنت الإشارات السردية إلى هذه الحرب، الإشارة إلى سياق الارتزاق. من ذلك، ما ورد في رواية "صنعاء مدينة مفتوحة"؛ فشخصيتها الرئيسة "محمد"، عمل مقاتلًا مع أكثر من طرف من أطراف الحرب، كقتاله مع الإيطاليين ضد الإنجليز في الحرب العالمية الثانية، مُتخذًا من التكُّسب سبيلًا إلى مشاركته فيها؛ إذ يقول: "كُنتُ أبيع نفسي لمن يريد شراء أداة لإطلاق الرصاص، وكنتُ مستعدًّا أن أبيع نفسي للشيطان ما دام سيدفع ثمنًا مرتفعًا"([48]).

ومثل شخصية المرتزق "محمد"، في رواية "صنعاء مدينة مفتوحة"، كانت شخصية "سيف حزام طربوش"، في رواية "ربيع الجبال"،([49])؛ إذ عاش حياته مقاتلًا مع الإيطاليين، ومع غيرهم من القوى المتصارعة، في الحرب العالمية الثانية.

وتضمّنت رواية "بخور عدني"، إشاراتٍ سرديّة إلى الحرب العالمية الثانية، من مثل استيعابها الموقف الغربي المناهض للحرب فكرةً وسلوكًا، من خلال رؤية شخصية الرواية، الفرنسي الأعرج (فرانسو)، الذي كان يمقت الحرب، فهاجر من موطنه إلى عدن؛ باحثًا عن وطنٍ، يتّسق مع رؤيته الخاصة، غير المتوائمة مع المعيار الوطني السائد في بلده.

ومثل ذلك، هي الإشارات السردية، التي ظهرت في مواضع متعددة من هذه الرواية، "بخور عدني"، منها: الإشارة إلى مشهد الطائرات الحربية الإيطالية، وهي تحلّق فوق منطقة "الشيخ عثمان"، في عدن. والإشارة إلى سقوط طائرة، تمكّنَ الدفاع العدني من أسر قائدها. والإشارة إلى نزوح السكان إلى محافظة "لحج"، هربًا من الغارات الجوية، التي كانت تستهدف مدينة عدن.  

كذلك، تُمثّل الصراعات والحروب العربية، واحدًا من سياقات الحرب الخارجية، التي كان لها نصيبٌ من سرديات الحرب في الرواية في اليمن. من ذلك، ما تضمّنَتْه رواية "الأنس والوحشة"([50])، من إحالاتٍ استوعبتْها شخصياتُها التاريخية: "الحجاج"، و"أبو مسلم"، و"أبو فراس الحمداني" وغيرهم، ممن يجوبون شوارع مدينة "باريس"، التي استوعبت الإحالة الرمزية بهم على الثوار العرب، وعلى اختطاف الآخرين لإنجازاتهم، وانتقالهم إلى المنفى مصيرًا اغترابيًّا قسريًّا.

كما استوعبت السياقات السردية-ـ في هذه الرواية- إشاراتٍ إلى الواقع العربي، المنهك بالصراعات والحروب، المتمزّق بالتدخلات الخارجية الفاعلة في صياغة العدائية، بين أفراد الأسرة الواحدة.

 

خصائص رواية الحرب في اليمن:

امتدادٌ عربيٌّ وإنسانيّ

تشترك رواية الحرب في اليمن، مع رواية الحرب العربية والغربية، بعددٍ من الخصائص المستندة إلى نسقٍ، من الشمول والجوهرية السردية المتعاطية مع أبعاد الصراع وأشكاله وتداعياته.

كما تشترك مع رواية الحرب العربية، في خصائص ذات بُعدٍ قوميٍّ، وسياقاتٍ اجتماعية وسياسية متشابهة. وعلى ذلك، فإنها تختلف عن الروايتين- الغربية والعربية- بخصائص مقصورة عليها، تتشكّل من خصوصية الواقع الاجتماعي والسياسي الذي تنتمي إليه، بما فيه من خصوصية الصراع وأبعاده، وماهية أطرافه، والغايات الكامنة وراء كل جولة من جولاته، والتداعيات المترتبة على هذه الغايات.

 

الصراع مضمونُ خطابٍ روائيّ

تعمل رواية الحرب في اليمن على استيعاب الصراع، والتفاعل معه، فتبني عليه خطابها الروائي ورؤيتها السردية، من خلال تسريدها لمسارات الخطاب الاجتماعي المتعدد في سياقاته التاريخية والسياسية والشعبية والأيديولوجية، ودورها الفاعل في قدح الصراع.

كما تعمل رواية الحرب في اليمن-ـ من خلال تسريد خطابات الصراع- على سبْر أبعاد التناقض والدلالة المزدوجة في تجارب الحرب؛ سعيًا منها إلى إنجاز "حوصلة نقدية تنطلق من حقيقة أن علاقة النص بالمجتمع موصولة بخطابات عديدة ولغات جماعية متحاورة ومتجادلة يمكن أن تصبح صراعات أيديولوجية واجتماعية وسياسية"([51]).

 

صراع الماضي والحاضر

ضمن تسريد رواية الحرب في اليمن، لمأساة الحرب وتداعياتها، يظهر نسقٌ من الارتقاء الكتابي، الذي يستند إلى تشبيك أحداث الصراع، وتوظيف ارتباطاتها وامتداداتها التاريخية، في اتصال الحاضر بالماضي، من خلال ما يتجانسان فيه من بُنية صراعٍ محكومةٍ بغاياتٍ سياسية، ومطامع الوصول إلى السلطة. وتداعيات كل ذلك، في مختلف جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

 

الصراع السياسي والاجتماعي

يمثل الصراع السياسي بُنيةً محوريّةً، في رواية الحرب في اليمن؛ إذ تقوم على تسريده أغلب الروايات اليمنية، التي أقامت كثيرًا من سياقاتها السردية على بُنية الحرب والصراع.

وبمعية الصراع السياسي- أو بصورة مستقلة عنه- يعدُّ الصراع الاجتماعي واحدًا من السياقات السردية، التي نالت اهتمامًا ملحوظًا في رواية الحرب في اليمن. من مثل تسريد ظاهرة "الثأر"، وما تفضي إليه من تداعيات مأساوية. كما في رواية "حرب الخشب"([52]). ومثلها، سرديات الصراعات والحروب الاجتماعية والقبلية في رواية "ركام وزهر"([53])، ورواية "نزهة عائلية"([54]).

 

تسريد كارثية الحرب

تقوم رواية الحرب- في مفهومها العام- على نسقين من التعاطي السردي مع الحرب وأبعاد الصراع. الأول منهما نسقٌ سرديٌّ، تحمل فيه الرواية أيديولوجيةَ طرفٍ من أطراف الحرب، فتعمل على تسريد موقفه. ويتعلق النسق الثاني، بالتعاطي المباشر مع الحرب، من خلال تسريد تداعياتها وآثارها في الحياة الاجتماعية، وما يترتب عليها من مآسٍ ومعاناة اقتصادية وأمنية ونفسية.

ويغلب على رواية الحرب في اليمن- سواء في تسريدها للصراع التاريخي، أو في تعاطيها مع الحروب الحديثة والمعاصرة- انتماؤها إلى النسق الثاني، الهادف إلى تسريد الحرب وآثارها وتداعياتها المأساوية.

 

نسيج الموضوعات المتعددة

تجانُسًا مع الرواية العربية في سمة الموضوعات المتعددة- التي تستوعب من خلالها أبعاد الحرب والصراع فتحوْل بذلك دون اتّساقها مع مفهوم رواية الحرب- تأتي هذه السمة في رواية الحرب في اليمن؛ إذ لم تصدر رواية حربٍ متسقة مع مفهوم رواية الحرب، سواءٌ في طبيعة الاستجابة الروائية، التي تأتي بعد أن تضع الحرب أوزارها، وبعد مسافةٍ زمنية تتيح للكاتب أن يتأمل أحداث الحرب بمعزل عن السياقات الأيديولوجية. أو في طبيعة التعاطي الجريء مع الحرب وآثارها وأوجاعها؛ إذ يجد الكُتّاب أنفسهم على حافةٍ من الحذر بين أطراف الصراع، فيميلون إلى خطابٍ استعاريٍّ أكثر مرونة في التفسير. وعلى ذلك، فإن في رواية الحرب في اليمن، ما يحيل على ملامستها لأوجه المحنة وأسباب الحرب، وإثارتها- في سياق ذلك- مجموعةً من التساؤلات حول تشظي الواقع وسلبياته([55]).



([1] ) منير طلال يحيى، "طريق البخور". منشورات وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 2004.

([2] ) علي محمد البعسي، "على خطى ملشان أريم". دار عناوين بوكس، القاهرة، 2024.

([3] ) عبد الله عباس الإرياني، "سُمُّ الأتراك". مركز عبادي للدراسات والنشر، صنعاء، 2012م.

([4] ) علي المقري، "بخور عدني". دار الساقي، 2016.

([5] ) أحمد زين، "ستيمر بوينت". ط2، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2017م.

([6] ) وليد دماج، "وقش .. هجرة الشمس". دار دال للنشر، 2021.

([7] ) نجيب نصر، "نصف إنسان". دار كتارا للنشر، الدوحة، 2021.

([8] ) عبد الله عباس الإرياني، "الصعود إلى نافع"، مركز عبادي للدراسات والنشر، صنعاء، 2007م.

([9] ) زيد مطيع دماج، "الرهينة". ط6، مؤسسة أروقة للدراسات والنشر والترجمة، القاهرة، 2014.

([10] ) محمد محمود الزبيري، "مأساة واق الواق". اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، صنعاء، 2015.

([11]) حاتم الصكر، "مأساة واق الواق"، مجلة دراسات يمنية، صنعاء، العدد (77) إبريل ــ يونيو 2005م، ص27.

([12] ) محمود صغيري، "الميناء القديم". اتحاد الكُتاب العرب، دمشق، د.ت.

([13] ) عبد العزيز المقالح، "دراسات في الرواية والقصة القصيرة في اليمن". المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، 1999، ص46.

([14] ) محمد عبد الولي، "صنعاء مدينة مفتوحة". دار العودة بيروت، 1986.

([15] ) علي محمد زيد، "زهرة البن". دار الكنوز الأدبية، بيروت، 1997.

([16] ) محمد عبد الولي، "يموتون غرباء". دار العودة، بيروت، 1986.

([17] ) أحمد مثنى، "هموم الجد قوسم". دار الحداثة، بيروت، 1988.

([18] ) أحمد قايد بركات، "المُبشّع". دائرة الصحافة والطباعة، صنعاء، 1993.

([19] ) سعيد عولقي، "السمار الثلاثة". مركز عبادي للدراسات والنشر، عدن، 1993.

([20] ) محمد عبد الوكيل جازم، "نهايات قمحية". اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، صنعاء، 2003.

([21] ) بلال أحمد، "على ضفّتي المجرى". الدار اليمنية للكتب والتراث، القاهرة، 2022.

([22] ) علي محمد لقمان، "سعيد"، و"كملاديفي". الروايتان طُبعتا معًا في كتاب واحد، صادر عن دار عناوين بوكس، القاهرة، 2020.

([23] ) حسين صالح مسيبلي، "مرتفعات ردفان". مؤسسة 14 أكتوبر، عدن، 1976.

([24] ) حسين سالم باصديق، "طريق الغيوم". دار الفارابي ــ بيروت، وزارة الثقافة ــ عدن، 1977.

([25] ) صالح باعامر، "المكلا"، اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، صنعاء، 2004.

([26] ) حبيب سروري، "الملكة المغدورة". إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 2004.

([27] ) سالم العبد الحمومي، "هذيان المرافئ". مركز عبادي للدراسات والنشر، صنعاء، 2005.

([28] ) أحمد زين، "فاكهة للغربان". منشورات المتوسط، ميلانو ــ إيطاليا، 2020.

([29] ) عمار باطويل، "عقرون94". دار ثقافة للنشر والتوزيع، أبو ظبي، 2017.

([30] ) وجدي الأهدل، "حمار بين الأغاني". هيئة قصور الثقافة، القاهرة، 2011.

([31] ) همدان دماج، "جوهرة التعكر". مؤسسة أروقة للدراسات والنشر والترجمة، القاهرة، 2017.

([32] ) نادية الكوكباني، "عقيلات". مركز عبادي للدراسات والنشر، صنعاء، 2009.

([33] ) حبيب عبد الرب سروري، "ابنة سوسلوف". دار الساقي، بيروت، 2014.

([34] ) نادية الكوكباني، "سوق علي محسن". دار الهلال، القاهرة، 2016.

([35] ) لمياء يحيى الإرياني، "ثورة مهيوب". مؤسسة أروقة للدراسات والنشر والترجمة، القاهرة، 2017.

([36] ) شذى الخطيب، "سنوات الوله". سماء للنشر والتوزيع، الكويت ــ القاهرة، 2017.

([37] ) وليد دماج، "أبو صهيب العزي". مؤسسة أروقة للدراسات والنشر والترجمة، القاهرة، 2022.

([38] ) عبد الرحمن منصور، "أغيلاس". مؤسسة أروقة للدراسات والنشر والترجمة، القاهرة، 2016.

([39] ) عبد الحكيم باقيس، "الرواية اليمنية في زمن الحرب". مجلة نزوى، سلطنة عمان، 25 مارس 2020، متاحة على الرابط: هنا

([40] ) حبيب سروري، "حفيد سندباد". دار الساقي، بيروت، 2016.

([41] ) سمية طه، "سبع نساء ونصف". دار مدارك، بيروت، 2019.

([42] ) مروان الغفوري، "تغريبة منصور الأعرج". دار الآداب، بيروت، 2015.

([43] ) فكرية شحرة، "صاحب الابتسامة". الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، جـ1/ 2017. جـ2/ 2018. جـ3/ 2019.        

([44] ) آلاء جمال الدين، "منتهاي". نُشر إلكترونيًّا، متجر تايم بوك، عدن، 2016.

([45] ) أحمد قاسم العريقي، "زوربة اليمني". دار هنداوي، القاهرة، 2017.

([46] ) عبد الله الطيب أرسلان، "يوميات مبرشت". اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، صنعاء، 2005.

([47] ) إبراهيم أبو طالب، "منازل السرد مقاربات في القصة والرواية". دائرة الثقافة، الشارقة، 2021، ص76.

([48] ) محمد عبد الولي، "صنعاء مدينة مفتوحة"، مرجع سابق، ص38.

([49] ) محمد مثنى، "ربيع الجبال". مركز عبادي للدراسات والنشر، صنعاء، 2002.

([50] ) هند هيثم، "الأنس والوحشة". صنعاء، مؤسسة الميثاق للطباعة والنشر، صنعاء، 2006م.

([51] ) حسن مزدور، "التفاعل النصي في رواية الزلازل؛ مقاربة سوسيونصية". مجلة الموقف الأدبي، العدد (391)، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2003، ص160.

([52] ) هند هيثم، "حرب الخشب". مركز عبادي للدراسات والنشر، صنعاء، 2003.

([53] ) يحيى علي الإرياني، "ركام وزهر". دار التنوير، بيروت، 1987.

([54] ) بسام شمس الدين، "نزهة عائلية". دار الساقي، بيروت، 2016.

([55] ) عبد الحكيم باقيس، "الرواية اليمنية في زمن الحرب". مجلة نزوى، مرجع سابق.