البطل الأيديولوجي في رواية "اليمن وفصول الجحيم" البطل الأيديولوجي في رواية "اليمن وفصول الجحيم"

محمد فائد البكري

 

في سياق النشر والتجنيس:

عن منظمة اليونسكو في سلسلة كتاب في جريدة بتاريخ الأول من يونيو عام 2011 صدر العدد154، بعنوان "اليمن وفصول في الجحيم" للدكتور أحمد الصياد. وهو مع التصدير الذي كتبه الشاعر العراقي شوقي عبد الأمير ورسوم الدكتورة آمنة النصيري، في31 صفحة من القطع الكبير. وقد بدا أن العنوان لا يحيل على جنسٍ بعينه من أجناس الكتابة، ولم يتم وسمه من قِبَل الكاتب بأي توصيف أجناسي، وكأنما أراد له كاتبه أن يكون حراً في سياق التلقي.

لكن التصدير الذي كتبه شوقي عبد الأمير، أشار إلى العمل بوصفه كتاباً، وأشار إليه في موضعٍ آخر بوصفه قراءةً روائيةً للأحداث الدامية التي وقعت في13 يناير1986م. وفي موضعٍ ثالثٍ وصفه بالرواية السياسية، وهذه الأوصاف كلها ممكنة. واللبس في توصيف الكتاب مما يعمد إليه بعض الكُتَّاب وقد يكون بقصد إزاحة الحدود المتواضع عليها أجناسياً لدفع المتلقي لمحايثة مضمون الكتاب خارج المألوف، ليعيد بناء جهاز التلقي لديه، وتجديد أو تغيير آليات القراءة وعاداتها، والبحث عن دلالة ما بين الشكل والمحتوى.

لكن عنوان الكتاب "اليمن وفصول في الجحيم" يوجِّه المتلقي مباشرةً لقراءة شيءٍ يخص اليمن، وهذا يعني تهيئته لقراءةٍ راصدة ما تلبث أن تتكشَّف عنها مقارنات بين ما يقوله الراوي وما يقوله تاريخ اليمن المعاصر.

في ثنايا العمل عناوين دالة، ولاسيما عنوان "الأيام الدامية" الذي كان بالإمكان تصعيده ليكون العنوان الرئيسي للكتاب أو لنقل الرواية، وهذا العنوان رغم أنه جيء به في الداخل فهو عملياً ملخص ما أرادت هذه الرواية أن توثِّقه، وأن تجعله مركز الثقل في السرد، وأما الأيام الدامية فهي أحداث الحرب الأهلية التي بدأت في يوم 13 يناير1986م، وهذا التاريخ الذي انبثقت منه استطرادات السرد في الرواية، يكاد يكون الحدث التراجيدي الذي اتخذ منه المؤلف تكئةً لعرض رؤيته لعدد من القضايا التي تضافرت في صنع المأساة التي تعيشها اليمن.

 

بين الراوي والمؤلف:

بالإشارة إلى ما رسَّمه المؤلف من التباس إذ لم يسمِ عمله، وتركه في أفق التلقي مفتوحاً على خيارات وخبرات المتلقي نجد أن بنية العمل فيما اعتمدته من تقنيات قصصية قد رجَّحت أن يكون روايةً بصرف النظر عما تقرره الترسيمات الأجناسية المدرسية بشأن محددات الرواية التقليدية، ونستطيع أن نقول: إن هذا العمل تتطابق فيه معرفة الراوي مع معرفة الشخصيات، فالراوي يتابع حدثاً واحداً ثم يجزئه ليكون خلفية لأحداث صغرى عدة تتفاعل من خلالها مواقف الشخصيات، ورغم أن الأحداث يغلب عليها أن تأتي على لسان الشخصيات أو من خلال إحدى الشخصيات، أو تجيء استبطانًا لدماغها من خلال ضمير الغائب، فإنَّ السرد بضمير المتكلم، غالباً هو ما يسوِّغ سيرورة تلك الأحداث، ومسافة الراوي من المحكي ليست بعيدة، حتى في المواضع القليلة التي يأخذ فيها الراوي موقع الرؤية من الخلف، أو ما يسمى مدرسياً بالرؤية المصاحبة.

يظل صوت الراوي حاضراً حتى في تعليقه على الأحداث واستدراكه على ما تقوم به بعض الشخصيات، وخلال مجريات السرد يغلب عليه التموقع في مركز شخصية "صادق" التي توشك أن تكون مركز القصة، ويلمس القارئ أهمية هذه الشخصية ومركزيتها في السرد في أكثر من موضعٍ، وما يرد على لسانها غالباً ما يكون تظهيراً لموقف الراوي. بل إن الراوي في مواطن كثيرة يكاد أن يساوي تلك الشخصية، بمعنى أن رؤيتها للأحداث محايثة، لو جاز لنا أن نستعير من تودوروف تعريفه للرؤية المحايثة. ورغم أن الأحداث في مسارها الأيديولوجي تنقسم بين غادة وبين صادق، فالالتقاء بينهما على موقفٍ واحدٍ يجعل تنويع الأحداث وتوزيعها بين الشخصيتين تظهيراً لموقف مثالي من القضية المركزية، وهي "اليمن" وتلك القضية بين الشأن الشخصي وبين البعد الوطني تشكل محور الجدل، الذي عنوان الرواية يوجه المتلقي إليه مباشرة.

أما الراوي- وهو ما قد يستخدم بعض الدارسين بديلاً منه مصطلح السارد– فهو تقنيةٌ يستخدمها المؤلف لتقديم عالمه الروائي، فهو وسيلته وأداته لعرض أفكاره ومواقفه، والراوي يقف في المنطقة بين المؤلف والقارئ من جهة، وبين الشخصيات والمؤلف من جهة أخرى، فالراوي كما يقول بال: ليس شخصاً، بل هو ضميرٌ مستتر في ثنايا السرد، وتذهب مونيكا فلوديرنيك إلى أن دور الراوي يقتصر على "تلك اللحظات من الحديث المباشر الذي يدل على وجود متحدث أو على مَن يخاطب القارئ مباشرة". وهناك من يرى أن الراوي هو ذلك "الكائن الخارق الذي يبتدعه المؤلف ويتخذ منه قناعاً ليشرح ويفسر ويؤول ويرتب الأحداث ويقدّم ويؤخر".

بالعودة إلى مفتتح الكتاب نجد إشارةً على لسان الراوي توشك أن توهمنا أنها تحكي قصة أسرة يمنية تتنازعها اتجاهات يتقاطع فيها الشأن الذاتي بالشأن العام، وهذا المفتتح يجعل التماس مع الفضاء الروائي يستبطن بعداً عاماً لدى المتلقي، ويشركه في رؤية الأحداث، وقد يجد نفسه في موقع إحدى الشخصيات يتأمل في حجاجها ورؤيتها ويلتمس لها تبريراً أو لما تقوم به تفسيراً لاسيما إن أعاد بناء الأحداث والوقائع على أساسٍ من استحضار التاريخ الذي تدور فيه الأحداث، ويعني هذا استمالة المتلقي وتهيئته لتلقي الحكاية؛ ليتفاعل مع ما يحاول السرد أن يغمسه فيه ليتخذ موقفاً، أو يغيَّر موقفاً كان عليه.

نمذجة الشخصيات والبطل الأيديولوجي:

في سياق السرد ظهر الراوي في نصف الصفحة الأولى تحت عنوان غادة وأخواتها، لتهيئة فضاء السرد، متحدثاً عن صادق وعمار وغادة، وواصفاً العلاقة بينهم ومحدداً دور كل شخصية، وراسماً الفروق بينهم، وكأنَّ كل شخصية من الشخصيات الثلاث قد تحدد قدرُها سلفاً. ومن الملاحظ أن الرواية تبدأ الوصف الخارجي الظاهر لثلاث من الشخصيات بلغة الراوي؛ التي تعطينا انطباعاً أولياً عن تلك الشخصيات، التي تمثِّل كل واحدة منها نموذجا.

إنَّ أسرة "غادة" التي هي محور السرد هي الصورة المصغرة لصراع الموقف مع المصلحة، وهي تستبطن ثنائية الصراع بين الأمل والواقع، ولا تخفى رؤية المؤلف بوصفه ذاتاً مستقلةً تهيمن على مجريات السرد وتتحكَّم بإنطاق الشخصيات بأسلوبٍ ما، ثم ما يلبث أن يتبناه راوٍ هو ذات متشكِّلة من وعي المؤلف الذاتي ووعي موضوعي، هو ذاك الوعي الجمعي، شكلاً ومفاهيم ودلالات؛ ليقدِّم به حكاية تتشكَّل على وفق سياقات توثيقية مع تصرِّف فني. وهذا يعني أن الأحداث التاريخية التي اتخذت إطاراً للسرد، تمزج بين ما هو أدبي وما هو واقعي حتى يكاد أن يختفي الفرق بين ما قالته عن الواقع وما أرادت أن يبدو واقعيا.

على رغم انسراب السرد من يوميات الذوات إلى يوميات الوطن وتعدد مسميات الشخصيات فأصوات الشخصيات مختزلة في بعدين اثنين أحدهما يستبطن الالتزام بقضايا الوطن وناسه وتعبر عنه ثلاث شخصيات جعلها الراوي على امتداد الرواية واضحة الرأي والموقف، على تفاوتٍ في تظهير ذلك، فشخصية صادق تجاهر بموقفها منذ البدء، وشخصية غادة تعبر عن موقفها بالتدريج، ثم تعلن انحيازها لشخصية صادق وموقفها، وكذلك شخصية الخال محسن على رغم أن انحيازها لا يعبر عن انحياز إيديولوجي فهو يجعل الالتزام من منطلق التماهي مع ما يراه واضحاً ولا يحتاج إلى اللعب على المفردات في بيان موقفه.

من الملاحظ أن كل الشخصيات منذ البدء تبدو كاملة ومواقفها محددة، كما لو أنها في مسرحية، تعبِّر عما يلقنها المؤلف، فهي شخصيات جاهزة مكتملة أو يستضيفها المؤلف لتبرير بعض المواقف دون مبرر فني أو موضوعي، والآراء والأفكار التي تجري على ألسنة الشخصيات لا نلمحها من خلال البناء الفني وإنما من خلال ما تعلنه كل شخصية. ولغة الوصف في كثيرٍ من مجرياتها تسبطن رؤية أيدولوجية للأحداث، وهي في بعض ما حاولت تصويره ركَّزت على خلق شخصيات منمذجة لتنطق بتلك الرؤى التي تتصارع في المجتمع، ففي ثنايا الرواية يمكن رصد أكثر من شخصية تمت نمذجتها ورسم حدودها، لتعبِّر عن موقف الروائي الذي التحم بشخصية الراوي ووزَّع مواقفه على ألسنة تلك الشخصيات.

من أبرز ما يمكن رصده في هذه الرواية أن بطلها جعل حبه لوطنه مطابقاً لأيديولوجيته، فهو بما آل إليه الأمر بطلُ تراجيدي، وفي الوقت نفسه بطلٌ أيديولوجي، يستظهر إخلاصه الشديد لأيديولوجيته اليسارية.

المقصود بالبطل الأيديولوجي هنا، هو تلك الشخصية التي تبني تصرفاتها وفق قناعات أيديولوجية سابقة على الأحداث التي تمر بها، بمعنى أن الأحداث لا يكون لها أي دورٌ في بناء وعي هذه الشخصية أو نموه، فوعيها ناجزٌ وأحكامها جاهزة، وما يكون من أحداث ليس إلا استثارةً للكامن من قناعاتها، فهي شخصية متحيِّزة وتفاعلها في سياق ما يستجد من علاقات لا يعبٍّر عن انفعال وإنما عن تفعيل للمقرر سلفاً بشأن قضايا محسومة، وبهذا فالجانب الأيديولوجي هنا، هو الرؤية التي يتبناها المؤلف حين يقوِّم العالَم الذي يصفه ويدركه أيديولوجياً، ومن هنا تغدو حياته محاولة لإخضاع واقعه لتصوراته المؤدلجة وإيجاد صيغة مطابقة لما صار يوتوبيا بالنسبة له. وحديثنا هنا يذهب إلى ما تبدى من أيديولوجيا في النص والذي يهمنا هنا هو التقويم المباشر للشخصيات من حيث تناوبها في عرض وجهات النظر.

ورغم ما يقال من أن الشخصية كائنٌ من ورق أو من حبر، بمعنى أنها كائن خيالي؛ فإن من واقعية الرواية أن حركتها تدور حول أحداث معروفة في التاريخ اليمني القريب ، ثم إن تلك الشخصيات تبدو كما لو أنها شخصيات حقيقية؛ فإطار للصراع فيما بينها على مستوى العلاقات بين أفراد أسرة واحدة، والمواقف الموزعة بين تلك الشخصيات تكاد تطابق المواقف المعروفة للتيارات السياسية في اليمن المعاصر، وعلى رغم لكن مجمل ما نطقت به تلك الشخصيات يعتمد بشكل أساسي على ثقافة الروائي ورؤيته الذاتية للعالم، ولهذا كان تقديم الشخصيات خاضعاً لجاهزيات الروائي ومنظوره للأحداث، وليس للبنية السردية وما تقتضيه من نمو الشخصيات وما يصيبها من تحولات نتيجة لتفاعلها مع الظروف والأحداث والوقائع والعلاقات وإكراهات الحياة.

من تلك الشخصيات التي جرت نمذجتها دون أن يسلط الضوء على نموها سردياً شخصية إمام الجامع، وهي شخصية تجسد استغلال الدين والتدثُّر به وتوظيفه لتحقيق مصالح ذاتية، وإخفاء نزواته المتوحشة تحت رداء الدين الذين مكَّنه من بسط نفوذه على المجتمع؛ وهذه الشخصية تظهر فجأة في ذروة العدوانية نموذجاً للقسوة والبشاعة والاستغلال للضعفاء، فالرجل الذي يفترض أن يكون مثالا للصلاح والتقوى قد تزوج بالإكراه تلك الصبية وهو في سن والدها، بل إنه أخذها كأي شيءٍ يقتنى مقابل ما كان له من المال ديناً على والدها، أي إنها "بيعت له لقضاء ديون أبيها المتراكمة" (صـ7). ولم يقف عند هذا، فهو- أي إمام الجامع- رغم كل ذلك الاستغلال لظروف أبيها، لم يكتفِ بما فعل ولم يتورع عن أن يمارس عليها قسوته، متمادياً في إذلالها واضطهادها إلى حد أنها صارت ترى أن خلاصها لا يكون إلا بقتله وقتل نفسها.

كذلك شخصية الضابط، لا يظهر من خلال السرد كيف نمت أو صارت إلى هذا الارتهان، فنموذج الضابط الذي ينفذ الأوامر لا يظهر أي تبرير لما قبل به من الارتهان والاستلاب والامتثال، فلا شيء على لسانه أو لسان الراوي يظهر لنا كيف صار على ذلك النحو من الخضوع تحت دعوى الالتزام بأوامر مرؤوسيه، هكذا فجأة يظهر كأداة للقمع، شخصيةً آليه يُختزل فيها مفهوم السلطة في تنفيذ الأوامر لا تنفيذ القانون، ويفضح الذهنية العسكرية التي تدير الأحداث والتي دفعت بالأمور إلى الحرب، والتي كانت معالمها واضحة قبل أن تندلع الحرب في 13 يناير؛ إذْ يورد على لسان صادق في الرد على الضابط الذي فتَّشه في المطار القول:" أنا أقدِّر لطفك أما الأوامر العسكرية فاعذرني إذا قلت أنها قائدتنا إلى جحيم يوشك أن يندلع"(صـ11).

على أنَّ أكثر النماذج تظهيراً للمنظور الروائي هي تلك الشخصيات الثلاث التي تتفاوت في الحضور في متن الرواية فـ"صادق" يساري يحب العلم وينحاز للوطن والمواطن، وهو في هذا نموذج البطل الأيديولوجي الملتزم الذي ظل إلى آخر لحظة منحازاً للمجتمع مدافعاً عنه، ومسخِّراً مهنته في الطب لخدمة المجتمع، حريصاً على أن يكون له دور عضوي في تغيير الواقع الذي يعيشه أبناء قريته. وهو من خلال السرد لعددٍ من آرائه ومواقفه يُراد له أن يمثِّل نبل الإنسان المتسلح بالعلم والمعرفة، وهكذا بالنظر إلى ما تفوه به من تعبيرات دالة على أيديولوجيته اليسارية أرادت الرواية أن تجعل من السردية اليسارية مرادفاً للنبل الإنساني.

بينما تمت نمذجة "عمَّار" ليمثل النقيض الايديولوجي للبطل صادق، فعمَّار رمز الرأسمالية، التي يجسدها النظام في صنعاء كما أشار إلى ذلك الراوي، وهو بتتبع آرائه وممارساته نموذج السياسي الانتهازي الذي لا يتورع عن فعل أي شيء مهما كان الثمن، ويوظف علمه وخبرته في أن يحقق لنفسه المال والجاه والسلطة، غير عابئ بالآخرين، منحازاً للسلطة وشهوتها مهما كلفه الأمر، ولو اضطر لتلفيق التهم لأخيه الشقيق "صادق" وهو بهذا بطل سلبي يجسد الشر والفساد.

أما "غادة" فهي نموذج البطل الإنسان العابر للأيديولوجيا، المنحاز ببساطته لقيم الخير والحق والعدل، وذلك الانحياز ينعكس في علاقتها بمجتمعها، وانحيازها للخير يجعلها بين أخويها في محل صراع، حاولت أن تؤلف بينهما، لكنها حين لم تستطع ذلك انحازت بكل حسم إلى صف أخيها صادق ضد أخيها عمار، انحازت لليسار ضد الرأسمالية، وحين يضيق بها البلد تلتحق بأخيها صادق في بودابست التي نُفي إليها، لتستكمل دراستها هناك، وهو ما يستوحى منه التأكيد على أن النجاة من مرارة الواقع مقرونة بالعلم والمعرفة.

بهذا تجسِّد "غادة" نموذج الشخصية التي ما يزال نقاؤها محل الرهان وموقفها أمل الخلاص، وهي التي حرصت على أن تكون قاسماً مشتركاً بين أخويها، ومحل إجماع ما تلبث في مواجهة الظلم أن تضطر للانحياز إلى الخير وإعلان الحقيقة بلا مواربة، ويلحظ في السرد أنها مراراً تستدعي تاريخ علاقة أخويها، وانفراط تلك العلاقة التي حاولت أن تجد فيها المشترك بينهما، لكنها خلصت إلى أن المواءمة غير ممكنة، لتقرر ترجيح كفة المظلوم، حين يقتضي الإنصاف ذلك.

أما الخال العجوز محسن بلحيته البيضاء فشخصيته لا يعرف من أبعادها سوى تلك الملامح الدالة على تجسيده لنموذج الإنسان البسيط الذي تكسبه الحياة حكمةً تنتصر بقوة الانتماء إلى الناس على غرور السلطة وهيلمانها، وهو يعلن انحيازه إلى صادق ضد عمار من داخل ثنائية الحق والباطل، فهو تجسيد الخير الذي يتغلغل في نسيج المجتمع، ويظهر في الشدائد واضحاً قوياً، وممانعاً أمام تجريف الوعي.

بالقياس إلى عدد الشخصيات التي انتصرت للخير بمواجهة الشر، نجد أن الشر كان محدوداً وهزيلاً حين تنبهت له النفوس الخيرة، وقد قُهِر واندحر بتضامن قوى الخير، وهو ما يعني ضمناً أن الشر يتضخم ويستشري ويستقوي ويتسيَّد وتتعاظم قوته بتخاذل أطراف الخير، وتلخيصاً لذلك، ما تمَّ التعبير عنه باستدعاء مقولة نجيب محفوظ على لسان عبد ربه التائه، وهو ما تردده غادة كل صباح ومساء: "سألت الشيخ عبد ربه التائه: متى يصلح حال البلد؟ فأجاب: عندما يؤمن أهلها بأن عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة" (صــ30).

خلاصة:

لأهمية البعد السردي استخدم الروائي شخصية صادق ليجلو من خلالها موقفه من الأحداث، ولكنه لم يستطرد في السرد على غرار المؤرخ الذي يسرد الوقائع ويعلق عليها، لقد جاء سرد الأحداث والوقائع من خلال الصراع بين الشخصيات التي يمثل كل منها وجهة نظر، وهكذا اتخذ الراوي من الواقع والعالم ميداناً مشتركاً لــوقائع التاريخ ووقائع الرواية.

ولو تعقبنا الحدث الذي أعاد تسريده فسنجد أنه اتخذ من يوم 13 يناير1986م منطلقاً لتظهير التداعيات، ولم ينسَ أن يربط هذه المآلات بما كان من سوء الإدارة وشيوع الفساد، وانعدام الوعي المجتمعي، فهذا الحدث مركزي في استنطاق المواقف وتحديدها، وقد استخدمه الراوي مراراً ليمرر من خلاله موقفه مما حدث، وعلى جوانبه ناقش قضايا كثيرة، منها قضية المرأة اليمنية وصورتها في المجتمع ومعاناتها من عدم المساواة والعنف المجتمعي، وقضية القبيلة اليمنية ودورها في الأحداث السياسية، وقضية العسكرتاريا ودور العسكر في تدمير السياسة وصنع الاستبداد، وكذلك قضية المشتغلين بالدين ودورهم في استغلال الدين لإفساد الحياة، وإنتاج التطرف ومحاصرة المدنية، وكذلك قضية المثقفين والنخب ودورهم في معاضدة السلطة وبناء الاستبداد، وقضية الانتهازية ودورها في الفساد والإفساد، وقضية التاريخ والمعاصرة، والتقدم والتخلف، وقضية التعليم ودوره، وقضية الرشوة، وقضية القات. مما يعني أن مساحة الرواية على صغرها احتشدت بقضايا مهمة، وعمل الروائي على أن يجعل منها فضاءً لكثيرٍ من آرائه ومواقفه وقناعاته التي أجراها على لسان الشخصيات.

وبعد، فالرواية بما وظفته من تقنيات سردية تمثل وثيقة مهمة عن أولئك الذين وحدتهم الأحلام والآمال وفرقتهم المصالح، وهي بذلك ملف من ملفات رائحة البارود التي أعادت رسم الجغرافيا خارج اعتبارات المشاعر والعواطف والأحلام والتمنيات.

وملخص وجهة النظر- التي توزعت بين ما جاء على لسان الراوي ولسان الشخصيات التي كان يتحدث بالنيابة عنها حيناً وحيناً يجعلها تدير الحوار فيما بينها- يمكن إيجازها في ذلك التساؤل الذي جاء على لسان صادق: "هل تخلى البعض عن الوطن لصالح المنطقة، وعن الشعب لصالح القبيلة؟ وعن السلطة الجماعية من أجل السلطة الفردية؟ وأين أصبحت الثقافة الأممية التي رفعنا راياتها عالياً؟ كيف نؤمن بوحدة الوطن المجزأ والبعض لايزال غارقاً في مفاهيم العشيرة والقرية والمنطقة" (ص7).

وهي كما نرى وجهة نظر تقريرية وبوضعها بموازاة عنوان الرواية تكشف لنا عن أن فصول الجحيم هي نتيجة لصراع الهويات الصغرى وعدم الانتصار للهوية الجامعة.