تسريد التحوّلات والتّشظي في رواية "سوق علي محسن" تسريد التحوّلات والتّشظي في رواية "سوق علي محسن"

عبده منصور المحمودي

شاعر وناقد. أكاديمي في جامعة عدن

امتدت موجة أحداث "الربيع العربي" إلى اليمن، في الحادي عشر من فبراير عام 2011. وقد كانت بدايتها في سياقٍ ثوريٍّ بحتٍ، هادف إلى صياغة واقعٍ جديد على أنقاض السلطة القائمة بعد تجاوزها. لكن سرعان ما أُفرغ- هذا السياق- من هذه الصيغة الوطنية الحالمة، بعد أن استحوذت عليه أطرافٌ، جاءت من قلب السلطة الحاكمة، وتدثرت بثياب الثورة، فعدّلت المسار الحالم إلى مسارٍ، تناسلت فيه الحروب، وتوالدت منه غاياتها المتقاطعة، بتقاطع أطراف الصراع وأقطابه المتعددة والمتباينة.

تسريد الربيع المغدور

كانت أحداث الربيع العربي في اليمن مادةً خصبةً اشتغلت عليها السياقات السردية، في رواية "سوق علي محسن"؛ إذ تعاطت مع جوهر هذه الأحداث، ومساراتها المُفرغة من ثوريتها، وما ترتب على ذلك، من صراعات وعنفٍ ومواجهات دامية.

وقد اتسم استيعاب هذه المادة الخصبة بتفاصيلها- في سياقات من المعالجة الأدبية المكثفة- بنوعٍ من السردية، المشوبة بسمةٍ من الرغبة التوثيقية لتلك التفاصيل. في سياقٍ من التسريد الهادف إلى تناول ماهية الأحداث، وجذوتها الشبابية، وغايتها الساعية إلى إحداث هزةٍ تفكيكيةٍ في منظومة الحكم، ومن ثم البناء على أنقاضها وطنًا حالمًا. وصولًا إلى تسريد المآل، الذي انتكس فيه الحدث والغاية والمعنى الثوري.

"يونس"، و"مهدي"

تمحورت المركزية السردية في تسليط الضوء على حياة شخصيتين رئيستين: "يونس الحوتي"، و"مهدي الريمي". وكلاهما ينتميان إلى البسطاء من العامة، ويتشاركان أحوال الفقر والحرمان من التعليم، وعدم الاكتراث بالسياسة. وكلاهما يعملان في سوق "علي محسن" بصنعاء، الأول في بيع الدجاج، والثاني في ذبحها. وكلاهما لا تتجاوز أحلامهما توفير أبسط مقومات الحياة.

استقطبت الأحداث في ساحة الجامعة "يونس" و"مهدي"، فاستدرجتهما إلى قلبها، فإذ بهما يعملان فيها، لا تماهيًا مع غايتها الوطنية ومزاجها الثوري، وإنما استثمارًا لما فيها من تجمُّعٍ بشري، يُسَهِّلُ عليهما العمل فيها، إذ اتخذ "مهدي" من بيع أكباد الدجاج المقلية عملًا داوم عليه. وفي الآن نفسه، كان يشرف على صديقه "يونس الحوتي"، ومن معه من الأطفال، في عملهم بائعين متجوّلين لمشغولات يدوية تصنعها أمهاتهم في منازلهن.

بين أنياب الحرب

سلطت الرواية الضوء على تداعيات إفراغ الساحة من ماهيتها الثورية، وتحويلها إلى ميدان صراع حادٍّ، كان سفك الدماء إحدى تجلياته؛ إذ أغرى "مهدي" أخاه الصغير، بالعمل في الساحة، جامعًا للقوارير البلاستيكية الفارغة، وبائعًا لها. تداعى معه شقيقه، فلقي حتفه برصاصة قناصٍ، في "جمعة الكرامة"، التي أُزهقت فيها عشرات الأرواح، من المعتصمين السلميين.

مزق الحدث قلب "مهدي"، بقسوةٍ ووحشيةٍ فتكت به، وعذبته بجلده لذاته وتأنيبه لضميره؛ فهو السبب في موت أخيه، هو من أغراه بالعمل، وهو من وعده بأن هذا العمل سيعود عليه بمال وفير.

وعلى هذه المشاعر النازفة حزنًا وعذابًا، استشعر "مهدي" مصيرًا أجمل، كان يلوح ملاذًا، نجا إليه شقيقه، من واقعٍ مثخن بالمعاناة والفقر والعمل الشاق. وجد "مهدي" نفسه متداعيًا مع ذاك المصير، متحدثًا مع طيف أخيه، متسائلًا عن المفارقة بين البقاء في عذابٍ وبين رحيل الخلاص منه:

"هل كان ذاك البلطجي الذي أطلق عليك رصاصته القاتلة يعلم أنه فك إسارك وحررك من وحشة الحياة، ليتوقف شلال آلامك فيها وإلى الأبد؟ نحن الفقراء لا نخسر شيئًا عندما يُلقى بنا في الهلاك، نجد الهلاك خلاصنا، نتحرر من عنت البؤس والشقاء. كنت يا أخي تجاهد بلا جدوى لتحصل على مذاق آخر للحياة، وها هو قاتلك أعتقك من شقاء لا يُحدّ، وآلام لا حصر لها كانت تترصّدك في القادم من الأيام"([1]).

"يونس"، وخياره الأخير

خلافًا لشقيق "مهدي"، اختار "يونس" نهايته- على علمه بمأساويتها- بأن شارك في إحدى المسيرات، التي انطلقت في جمعة أخرى، فكان واحدًا من ضحاياها. كان الأمل يحدو "صبحية"، الناشطة المدنية، وهي تبحث عنه راجيةً أن يكون ممن نجوا، لكنها صُعقت بالحقيقة المرة، حين "أخبرها الطبيب المسعف بأن يونس فارق الحياة حال اختراق الرصاصة رأسه، وأنه ظل فترة مُلقى على الأرض ولم يستطع الشباب إسعافه، نتيجة كثافة الرصاص وإصرار الجنود على استمرار قنص المسعفين؛ لذلك تم سحبه بحبل علق في يده بعد محاولات عديدة"([2]).

وفي سياق تسريد هذه التحولات الدامية، أزاحت الرواية الستار عن العلاقة بين ما كان يحدث من هذه المآسي وغاية الأطراف المستحوذة على الساحة، التي اعتادت على استثمار سقوط الضحايا في مساوماتها المقيتة، سعيًّا منها إلى السلطة ضِمْنَ مفاوضةٍ مضمونة لها وحدها:

"ستنتهي حصيلة يوم القتل المجاني بثلاثة عشر شهيدًا وأكثر من مئتي جريح. سيصبح لدى الأحزاب اليوم ذريعة لإذلال النظام، ومشاركة جُرمه للعالم بدماء هؤلاء الشباب. ليس لديهم متسع من صبر يملكه الشباب، ويسعون بكل ما أوتوا من قوة لتسوية سياسية؛ لكن سيرًا على دماء الشهداء"([3]).

اكتمال المأساة

وصلت السياقات السردية، إلى المحطة التي أحكمت فيها الأطراف الدخيلة قبضتها على الساحة، ومن ثم قبضتها على مجريات المفاوضات، فاختُزِلَ هذا التحول في قهقهة ثلاثة من شباب الساحة: "بشرى"، و"صبحية"، و"كمال"، "فثلاثتهم يعتبرون أن هناك أشياء كثيرة سُرقت من الثورة وأن هناك من أراد التطهر وغسل قذارة أفعاله وماضيه السيء بانضمامه لها من الأحزاب والقادة وكبار الموظفين في الدولة"([4]).

لقد استوعبت رواية "سوق علي محسن" أحداث "الربيع العربي" في اليمن، بخصوصيته، واستثنائيته التي لم تنتظر فيها ساحته- مثل ساحات بلدان الربيع الأخرى- ما جاء بعده من بُنية الدولة العميقة التي أفرغته من جوهره، وإنما انطلقت- هذه البُنية في اليمن- من ساحة "الربيع العربي" نفسها، بعد أن صارت هي أقطابه المؤثرة التي آلت إليها الأمور، فكانت طرفًا في تسويةٍ سياسية، تقاسمت فيها مع نفسها مقاليد السلطة، فاستمرت الإشكالية الوطنية في التمزق وتقاطُعِ المصالح السياسية، التي تداخلت مع تحولاتٍ إقليمية ودولية، أفضت إلى سياقاتِ صراعٍ دمويٍّ، يتعدد في غاياتِه ومرجعياتِ أطرافه، ويتّحدُ في تداعياته المأساوية المطردة.

 



([1] ) نادية الكوكباني، "سوق علي محسن". دار الهلال، القاهرة، 2016، ص77.

([2] ) نفسه، ص257.                                

([3] ) نفسه، ص239.

([4] ) نفسه، ص178.