مقاربة موضوعاتية: محمد فائد البكري
في سياق المفهوم:
في الفلسفة يُشار إلى الموضوع بكل ما هو خارج الذات، وحتى الذات حين ينظر إليها كموضوعٍ يقتضي ذلك أن تُدرس بكثيرٍ من التجرد، وكأنها شيءٌ مستقلٌ يُكتشف لتوه خارج ذات الدارس، أو ينبغي أن يُدرس من حيث هو في راهنه خارج المعرفة المسبقة به. ويعرَّف الموضوع بأنه: "هو الشيء الموجود في العالم الخارجي، وكل ما يُدرَك بالحس ويخضع للتجربة، وله إطارٌ خارجي، ويُوجد مستقلاً عن الإرادة والوعي الإنساني". ويُشار إلى ذات الإنسان بكل ما هو داخل الجسد، ويُقال: "هو جوهر الشيء وهويته وشخصيته، وتعبر عما به من شعور وتفكير".
أما في الأدب بوصفه إنشاءً يُساق على سبيل التخييل، ويراد له أن يكون محل استثارة الوعي والعاطفة معاً، بصرف النظر عما يُنسب له من استلهام الواقع أو ما يُراد أن يكون عليه من مطابقة الواقع، أو ما يُراد له من الإيهام بالواقع، فالحديث عن علاقة الذات بالموضوع يغدو محل جدلٍ لا ينتهي، وكثيراً ما يكون التساؤل: هل ذات الأديب تكتب نفسها وتسقِط قناعاتها من خلال الكتابة عن وعيها بالواقع الكائن أم الواقع المتمنى؟ هل تخلق واقعاً تتطلَّع إليه أم تناقش قضايا واقعٍ تعيشه وتريد تسجيله وتوثيقه أو تريد تزيينه وتجميله أو تريد تغييره واستبداله؟ وهل بعد ذلك يمكن لدارسٍ أن يزعم أن وجهة نظر كاتبٍ ما هي وثيقة عما حدث لمجتمعٍ معين كتب عنه أو ادعى أنه يكتب عنه، أم إن الأمر في مقاربة كل ذلك لا يعدو أن يكون مقاربةً لوعي الكاتب فحسب، سواءٌ كانت العوالم التي بنى من خلالها أعماله متخيلةً ومصطنعةً أم كانت عوالم لها حيزٌ فيزيقي وترسيمٌ تاريخي؟
من هنا يجري البحث عن أبعاد العلاقة بين الذات والموضوع على أساس أن الموضوع هو ما تنفعل به الذات الكاتبة وتعبِّر عن موقفها منه بأشكالٍ شتى، منها ما يوصف بالإبداع القصصي أو الروائي كما هي الحال مع محمد عبد الولي. وبهذا يغدو ضرورياً لتظهير آراء الذات وإبراز مستويات تفاعلها مع الحياة أن ينظر فيما يكون من طرائق تظهيرها لتلك الآراء؛ إذْ لا يقف الأمر في الفن عند ما يُقال وإنما في كيفية القول.
لكننا في هذه المقاربة قد حددنا سلفاً أنها موضوعاتية، فحصرنا بذلك غايتها، ولا يغفل أن من الدراسات من تبحث عن تظهيرات الذات وحدها عبر المطابقة بين ذات الكاتب الروائي وبين الساردين أو الرواة، وربما كان من ذلك أن تذهب بعض الدراسات إلى القول: إن الذات الكاتبة تعمل على ترسيم حدود كينونتها هي، وبسبب ذلك قد يجري رصدها لُغوياً من خلال ما يحيل عليها من ضمائر، ويرى أن تلك الضمائر تعمل على إشهار صوتها، وإبراز موقع التكلم في العمل الأدبي، غير أن تلك الدراسات فضلاً عن أنها تقف عند حدود السياقات اللغوية ولا تحاور الفكر إلا فيما ندر فهي كذلك تفترض أو تفرض فصلاً بين الذات والموضوع.
في الفلسفة الظاهراتية يجري الربط بين الذات والموضوع من منطلق أنه "لا يمكن لعملية الوعي بالشيء أن توجد دون وجود الشيء؛ فإنَّ الشيء ذاته أو الموضوع لا يمكن أن يوجد دون إدراكه، وهو شرطٌ جوهري في تلك العلاقة". وهو ما يقتضي أن وجود أي موضوع تبدأ من الوعي به.
في سياق المقاربة:
في ضوء ذلك سنقارب علاقة الذات بالموضوع في أدب محمد عبد الولي من خلال عددٍ من النماذج لتظهير المسافة بين الذات والموضوع، وانعكاسات الوعي بالموضوعات في المحكي على ألسنة الذوات، وسنرى ما طبيعة الموضوعات التي كانت محل انشغاله وكيف عالجها وعرض موقفه منها، وهذه المقاربة في المجمل تنبني على استخلاص الأفكار العامة ومحددات النظر إليها.
بهذا التساؤل على لسان إحدى الشخصيات في إحدى قصصه: "هل نحن في القرن العشرين؟ لا أصدِّق! كل ما حولي يوحي بأننا جزء من كتاب تاريخٍ قديم." سجَّل محمد عبد الولي موقفه مما يعيشه، ولكن بصيغة الجمع، فالنحن هنا توحي بعموم المأساة، فهي لا تخص ذاتاً واحدة. والملاحظ أن أبطال روايات وقصص محمد عبد الولي في هذه النماذج مأساويون، يكافحون ببسالة ضد سلبيات الواقع ويرفعون الصوت عالياً بالنقد وبالسخرية وبالإدانة لذلك الواقع الذي فُرِض عليهم أن يعيشوه. "آهٍ، لو ترين ملحمة الإنسان الخالدة، وهو يناضل من أجل غده، من أجل أن يعيش آخرون سعداء..." (من قصة: الغول).
هؤلاء الأبطال مأساويون بسبب ذلك الواقع الذي نشأوا فيه أو أُجبروا على أن يكونوا فيه، ومن ثمَّ فهم واقعيون يعيشون حياة العامة من الناس، ويكابدون الواقع المعيش، والكاتب في رسمه لتلك الشخصيات لا يعلو بالشخصية فوق شرطها الإنساني ولا يقوِّلها كلاماً أكبر مما تحتمله سياقات حياتها أو تجربتها الذاتية وما يكون عن تلك التجربة من وعيها الشخصي، ولا يصادر على الشخصية حق التعبير عن طموحات ذاتية وأطماع شخصية تجعلها كأي شخصية في الحياة لها واقعٌ تتفاعل معه وتنشئةٌ تتحكَّم ببعض خياراتها وقناعاتها وسلوكاتها، وتمارس إكراهاتٍ على وجودها وعلاقاتها.
من تأطيرات ما تعيشه تلك الشخصيات من صراع مع ظروفها وحظوظها في الحياة ما يمكن رصده من خلال الفضاءات التي تتحرك فيها، وفي هذا يغلب أن تكون تلك الفضاءات مسارح ذكريات أو مسارح آمال يغيب فيها البعد الفيزيقي للمكان ويحضر البعد النفسي؛ مما يعني أن تلك الأمكنة تبرز جانباً حيوياً من علاقات الذات بالموضوع، فالموضوعات من خلال تلك الفضاءات تؤطر رؤية الذات وتبلور وجهة نظرها، وتعمق الشعور بما تعانيه، فصنعاء وعدن والحبشة امتدادٌ لفضاء روائي واحد يستخدم لإبراز معاناة الاغتراب في الوطن الممزق جغرافياً إلى شمال وجنوب، والشعب الممزق بين سلطتين، كل سلطةٍ منهما تعمل على قهر الإنسان وتعميق اغترابه، وبرغم اختلافهما في السياسة، فطريقتهما في الاستبداد واحدة وموقفهما ضد الإنسان اليمني المقهور واحد وربما موحد.
ما يميز الحبشة عن صنعاء وعدن أن الحبشة كحيزٍ فيزيقي تبدو أكثر تظهيراً لأبعاد المأساة فاللجوء إليها يعني أن اللاجئ ضاق به وطنه، فترك وراءه كل علاقاته الاجتماعية وذكرياته مكرهاً، ليبحث عن ملاذ. وبحث اللاجئ عن ملاذٍ لا يعني أنه سينسى ذلك الماضي في تلك الجغرافيا التي غادرها، كما لا يعني أنه سينجح في صنع البديل الذي ينسيه، فهو يبدأ من الصفر في إنشاء حياة أخرى بكل تبعاتها وأعبائها ومكابداتها، وبكل ما يتوجب عليه من التكيُّف والتأقلم، وقد ينجح إلى حدٍ ما وقد لا ينجح، وفي هذه المغامرة تغدو الحبشة مكاناً ملتبساً بين إرادة النجاة وبين انعدام الشعور بالنجاة من الاغتراب الذي كان يعانيه في وطنه، ويكون منتهى التراجيديا في أن اللاجئ يعيش ممزقاً نفسياً بين وطن أضاعه ووطن يبحث فيه عما يشبه ذلك الوطن الذي أضاعه، ومنتهى العناء عملياً أن تبحث عن وطنيين، أو عن صورة الوطن الذي نشأت فيه في وطنٍ آخر لا يمكن بحال أن يكون النسخة المطابقة لما ألفت، فالحبشة مهما تكن فهي فليست الفضاء الملاذ، إنها مسرح الاغتراب النفسي والثقافي والاجتماعي للإنسان اليمني في المهجر، وهكذا يبرز وضع اليمني بين خيارين أحلاهما مُرُّ، بين اغترابٍ في جغرافيا الوطن واغترابٍ خارج جغرافيا الوطن، فهو غريب داخل وطنه يعاني من التهميش والقمع وكثيراً ما يضطر للإذعان للسلطات القامعة أو الاختباء منها. وغريبٌ في المكان الذي لجأ إليه مرغماً واتخذ منه ملاذاً ومهرباً من الظلم والطغيان، وحاول من خلاله إيجاد حياة كريمة تليق بإنسانيته، لكن ذلك لم يتحقق. لأنَّ "هذه البلاد تقتل في الإنسان حاسة التفكير، تبلد الحس، وتنهي مع الزمن نشاط خلايا المخ القابلة للتفكير" (من قصة: شيء اسمه الحنين).
بين الاغترابين المحكوم على اليمني أن يعيشهما يشد محمد عبد الولي وتر الحنين ويبحث عن معنى الحياة حين تهدر كرامة الإنسان ويضطرب الشعور بالهوية بين مكانين، ويغيب الوطن بكل ما له من دلالةٍ علائقية بالاستقرار والأهل والأقارب والذكريات واكتشاف الذات، وتعاني الذاتُ استشعاراً دائماً للشتات والضياع. ولتعميق ذلك وبحثاً عن الأسباب التي جعلت الإنسان اليمني مقهوراً مهدوراً، يطرح محمد عبد الولي من خلال تلك الشخصيات أسئلةً عن الحرية والمعتقد والحقوق والواجبات، وأسئلة عما يحدد علاقات الأنا بالآخر في داخل جغرافيا الوطن وخارجها، ويورد مشاهد من صراع الإنسان اليمني مع موروثاته وتطلعاته وطموحاته، ونزوعه المتردد بين الخوف من المجهول والخوف من الآخرين والخوف على المستقبل والخوف من تحلل الذات في وحل الغربة والبعد المكاني عن الأهل والأقارب والأصدقاء.
ورغم أن محمد عبدالولي كان مناضلاً معروفاً بأيديولوجيته اليسارية وقد عرَّضه نشاطه السياسي للسجن مرتين، فإنه من خلال هذه النماذج التي نقاربها لا يطرح القضايا كجاهزيات أيديولوجية ولا يستخدم مصطلحات أيديولوجية أو يستند إلى سردية أيديولوجية ولا يُنطق الشخصيات بمقولات أيديولوجية ولم ينتصر لأبطال أيديولوجيين، فالإنسان اليمني هو الموضوع بصرف النظر عن كونه مستقلاً أو من اليمين أو اليسار، وتتبُّع معاناة هذا الإنسان هي الهدف، وقد ظل يطرح تلك المشكلات والقضايا من خلال واقعٍ مادي غالباً ما نلمس إطاره السياسي والاجتماعي والثقافي؛ فالشخصيات التي يطرح مآسيها غالباً ما تعمد إلى الحوار لتعريفنا بأسباب ما تعانيه من آلام الاغتراب النفسي والاجتماعي والفكري والمكاني، إن لها واقعاً يجعلنا نعرف حيثيات عنائها وأبعاد مأساتها.
لقد ظل محمد عبد الولي ينطلق من الموضوع في مقاربة الرؤى التي تستبطن مأساة الإنسان، وظلت الموضوعات الإنسانية تأخذ كل اهتمامه في بناء الموقف، فهو يكتب عن واقعٍ يلمسه ويرى ضحاياه، يكتب بهدف تبصير الناس بإمكاناتهم وتنبيههم إلى ما أهدروه من طاقاتهم وقدراتهم وما تواطأوا عليه ضد بعضهم حتى آل بهم الحال إلى التردي، وأبرز الأمثلة على ذلك ما نجده على امتداد ذلك الحوار في قصة: "يا خبير"؛ فشخصية العسكري تقوم بإشهار أبعاد المأساة للذات وللآخر، وقد ذُكرت الشخصية بصفة العسكري دون أن يذكر اسم ذلك العسكري، فالوظيفة هنا هي التي يستهدفها النقد، ويمكن في هذا السياق القول إنها محت ذات صاحبها وحولته إلى آلة؛ فهو لا يُشار إليه من حيث هو إنسان وإنما من حيث هو شيء.
ومن الملفت أن العسكري هو الذي يمسك بخيط السرد ويقوم بمرافعة طويلة حول طبيعة الصراع الذي وجد فيه نفسه أداةً للظلم والقهر، وهو ما يعني صراعاً نفسياً وتمزقاً بين ما يعرف وما يفعل، بين إدانة الفعل والقدرة على رفض الفعل الذي أكره عليه، وفي سياق الحوار الذي أخذ شكل الترافع بين وجهتي نظر متصارعتين، يسرد العسكري أبعاد ما آل إليه حال الوطن وكيف استخدمت السلطات الإنسان لظلم أخيه الإنسان، ويقول: "اسمع يا خبير أنت رعوي هانا في القبيطة وأنا رعوي في حاشد، معي هناك بيت وعائلة، مَرَة وأولاد ما شاء الله، لكن ما معانا بِيَس.. ما معنا أرض.. هاناك المشايخ أخذوا الأرض، واحنا أصبحنا عساكر ندور على رزق لقمة.. قالوا.. الحجرية فيها ذهب.. جينا هانا، أقسم بالله هانا ما في إلا الطمع والنهب والحسد، كل رعوي يشتي ينهب صاحبه...أخوه.. ناهي معكم بِيَس". وقد برزت شخصية العسكري كضحية أُجبرت وأكرهت على أن يكون لها ضحايا، وهو يستطرد بوعي في تظهير أبعاد الغربة التي يعيشها اليمني تجاه الآخر اليمني الذي عملت السلطات على أن تصنع بينهما العداء من خلال إفقار الطرفين، وتوظيف فقر أحدهما لقمع الآخر. والعسكري من أول لقائه بذلك الآخر الذي جعلته الصدفة رفيقه في الطريق، يستخدم النداء موارباً في صفة "يا خبير"، وكلمة" خبير" هنا من اللغة الدارجة وهي تستخدم دلالة على ألفةٍ ما بين صديقين أو قريبين أو شخصين جمعهما ظرفٌ ما، فهما يعرفان بعضهما، أو يريد أحدهما كسب ودِّ الآخر ولفت نظره إليه ومشاركته الحديث، وهذه الصيغة في النداء؛ إذْ ترد على لسان العسكري، فإنها بمعنىً ما تعكس الرغبة في رفع الوحشة فيما بينهما، بين الذات التي زيها وبندقيتها تجعلها محل ريبة وتوجس، وبين الآخر الذي وضعته الصدفة في طريق الذات. وقد استشعر العسكري تحاشي ذلك الآخر له، فأنزل بندقيته ودعاه للصلاة معه ليزيل عنه ذلك الشعور بأن العسكري أداة الظلم ورمز السلطة وقسوتها يتربص به، وفي كل أبعاد الحوار ظل يناديه: "يا خبير" غير باحثٍ عن اسمه، واستطرد معه إلى ما يشير إلى أنهما يعيشان مأساة واحدة.
في قصة "على طريق أسمرا" يدور حوارٌ طويلٌ بين يمنيين جمعتهما الصدفة، أحدهما مغتربٌ قديمٌ قد صارت غربته واقعاً وصارت مرارة الغربة لا خلاص منها إلا بالموت، والآخر مغتربٌ عابر ٌيبحث في العيون عن ألفة ولو طارئة، ويسأل: "كم مضى عليك منذ قدمت من اليمن؟ كان يحاول أن يتذكر. ثم قال: أعتقد ثلاثين سنة أو أكثر." وفي الحوار: "ألا تفكر في العودة إلى اليمن؟ فكَّر طويلاً وقال: اليمن.. لقد نسيتها. إنني أنتظر الموت فقط. لن يعرفني أحد هناك إذا عدت. ثم.. ما الذي سأحمله لهم بعد غياب عمر كامل؟ لا.. سوف أبقى هنا حتى النهاية. لا أحد بقي معي هناك. لن أعود.. قد يعود أبنائي يوماً ما إذا عرفوا أن أباهم كان غريباً.. وقد لا يعودون. قد يظلون مثلي غرباء. كانت دمعات تطفو على جفونه".
في السياق نفسه مثَّل عبده سعيد بطل رواية "يموتون غرباء" نموذج اليمني الذي أضناه الاغتراب الجسدي والنفسي والاجتماعي في المهجر ومزَّقه الحنين إلى وطن الآباء والأجداد والأهل، لكنه بسبب من نشأته الفقيرة وافتقاره إلى الوعي لم يقم بالقطيعة مع واقعه الذي قذف به إلى خارج الوطن، ليصحح ويغيِّر ويستدرك ما فات آباءه، أو لعله لم يكن قادراً على القيام بذلك وكان سوء تصرفه نتيجة متوقعة لنشأته، وهكذا وقع في شَرك الغربة، وكان امتداداً لمأساة ذويه، وزاد على ذلك أن أنجب من إحدى علاقاته العابرة طفلاً ولم يعترف به، ليتركها هناك يعيش امتداد غربته. وكذلك نجد أن نعمان بطل رواية "صنعاء مدينة مفتوحة" يُمثِّل نموذج اليمني الذي أضناه الاغتراب النفسي والفكري في الوطن، ورغم معرفته بأبعاد المأساة فقد كان الواقع أقوى منه، وهو ما نفهم منه أن الغربة ليست في النأي عن وطنك، وإنما في ألا تعيش كما تحب.
إنَّ التحام محمد عبد الولي بقضايا الوطن دفعه إلى تقرير أن تغيير الواقع ينبغي أن يحدث من داخل الوطن، وليس بتغيير الوطن عبر اللجوء إلى جغرافيا بديلة، وقد عبَّر عن ذلك صراحةً في مواضع مختلفة، منها ما جاء على لسان نعمان بطل روايته صنعاء مدينة مفتوحة؛ إذْ يقول: "لا تنسوا أنتم، أن هذه الأرض. لن تنفصل عنكم مهما هربتم. إنها جزء منكم. تطاردكم. ولا تستطيعون منها فكاكاً. أنتم يمنيون. في كل أرض. وتحت كل سماء".
في قصته "يشيبون عند الفجر" نجد أن معاناة شخصيات القصة ليست في كونها تتطلع إلى ما هو شخصي ذاتي، وإنما في كونها تتطلع إلى خلاص للجميع، ومثل ذلك نجده في قصة: "عمنا صالح"، وحتى في قصة: "ليته لم يعد"، بلغت المأساة ذروتها في أن العودة الخائبة قتلت الأمل الذي كان مُرجأ في الانتظار، ومن هنا غدت مواجهة مشاعر الفقد تقارن بين الغربة التي كانت تخبئ رهان الحياة والعودة التي صارت عبئاً على تلك الزوجة التي عاشت الفقر والحرمان وكابدت الفراق وعاشت اغتراباً اجتماعياً ونفسياً، ولكنها بقوة الأمل ظلت تقاوم حتى عاد لها الزوج الغائب مريضاً معاقاً ليضاعف من عنائها.
تجدر الإشارة إلى أن التركيز على تغيير وعي الذوات هو مركز الموضوعات التي عرضها محمد عبد الولي وناقش أبعادها، وكأنه لا موضوع لديه إلا ما تنفعل به الذات وتقرر بشأنه أن يكون لها موقفٌ ما، ومثال ذلك ما نجده في رواية صنعاء مدينة مفتوحة على لسان محمد مقبل وهو يقول: "إننا كلما مارسنا الحياة اليمنية أدركنا عمق المأساة. ولكن كلما تهربنا زدنا من المأساة وعمقنا جذورها. ووهبنا لها حياة أخرى. لكي نقضي على المأساة. يجب أن نعرف أنفسنا". وتصادياً مع هذه النبرة الكاشفة عن محاولة الذوات قراءة واقعها والتنبيه إلى ما يحدث، قال الحاج علي صاحب المقهى: "ليس بالشعور وحده يستطيع أن نخلص بلادنا... فأنا منذ عشرين عاماً أمتلك هذا المقهى ومرت عليَّ وجوهٌ كثيرة كلها كانت تتحدث أحيانا، وخاصة عندما يأكلون القات يتحدثون يا بني عن الوطنية وعن بلادهم.. ولكني لم أرَ واحداً منهم يحاول أن يفعل عملاً إيجابياُ. لتحطيم الجمود الذي يسيطر على بلاده.. نعم يا نعمان ليس شعورنا بأن بلادنا مظلومة يكفي".
وفي استحضاره لدور الوعي في تغيير الواقع، نجد شخصية علي التهامي في قصة "طريق الصين" بحكم الجهل والفقر ارتهن للغير. وهكذا بمجرد أن تعلَّم كيف يكسب قوته وانخرط في العمل مع الصينيين، استطاع أن يستقل بوجوده وكيانه، وأنهى استحواذ الحاجة على إرادته. وقد تحوَّل من عسكري وعبدٍ لهادي هيج ذلك الإقطاعي المتحكِّم إلى عاملٍ يشق الطريق مع الصينيين، لقد استطاع أن يكفي نفسه بعد أن كانت الحاجة تضطره للقبول بأن يكون تابعاً.
خلاصة:
من الملاحظ أن الموضوع فيما قاربناه من كتابات محمد عبد الولي يحضر أولاً ثم تبدأ الذات في التعليق عليه، عبر صوتها المتواري في إحدى الشخصيات أو في الحوار بين الشخصيات. وهذه الذات المستغرقة في هموم وشجون شعبها، لا يمكن بأي حالٍ أن تسترسل في اجترار مواجع ذاتية أو التعبير عن هموم شخصية دون أن تلتفت إلى الآخرين حولها على امتداد الوطن. ويغلب على بناء الموضوع لديه أن يكون انطلاقاً من غرض معين، لكن الأمر لا يتوقف هناك؛ فكل عملٍ من تلك الأعمال أكان قصةً أم روايةً يتوفر على موضوعة معينة أو غرض ما ثم ينداح في مقاربة موضوعات أخرى ذات صلة على نحوٍ من الأنحاء، وكل تلك الموضوعات وتداعياتها تؤول إلى تلك الذات اليمنية التي تتعدد في الشخصيات وتوحدها المأساة. بمعنى أن ذلك التغريض مهما بدا مقصوراً على فكرة بعينها فهو يحايث أفكاراً أخرى ترد على سبيل التداعي أو الاسترجاع وربما كان مباطنة للموضوع الذي بدأ به العمل. ففي قصة "الأرض يا سلمى" رغم أن الغرض قد نلمسه ابتداءً من العنوان، نجد مأساة المرأة اليمنية موضوعاً محايثاً ومتقاطعاً مع موضوع الأرض، كما نجد أن غربة المرأة وجهاً آخر لغربة زوجها.
وهذا يعني أن الفكرة المهيمنة معنوياً على كثيرٍ من النماذج التي قاربناها هنا لا تمثل الوظيفة البنائية التي تعمل على بناء الوحدة الموضوعية للعمل بقدر ما تمثل الوظيفة الإشهارية للقضية ولموقف الذات منها. ويعني ذلك أن السيرورة الأدبية لهذا الموضوع أو ذاك لا تنتظم حول اختيار الغرض وصياغته فحسب، إنها تستنهض في المتلقي تفاعله وتساؤله، ليقرر إن تغيير الواقع يبدأ من تغيير الوعي.