محمد فائد البكري
في سياق المقاربة:
لكل مقروءٍ خصوصيته التي لا يمكن لأي قراءةٍ أن تدَّعي استنفادها أو الإحاطة بها، أو التوفر على إدراكها كلياً، ومن ثمَّ فكل قراءةٍ هي شيءٌ من منظور القارئ إلى المقروء أكثر من كونها منظور المقروء أو كاتبه. وقراءة الرواية من تلك القراءات التي لا يملك القارئ خلالها أن يقف على حدود ما يكون من تظهيرات وعيه بما تقوله سطور الرواية وما يكون خلف تلك السطور من وعي الكاتب ولاوعيه. ولهذا ليس من السهل تلخيص رواية أو إيجاز ما دار في سطورها من تقاطعات الرؤى وتفاعل أدوات التعبير؛ فذلك مما يجني على موضوع الرواية وطريقة عرضه، لاسيما حين تصير الكتابة عن الرواية المقروءة أشبه ما تكون بترتيب الموضوعات والأفكار وبحث العلاقة بين ما تفصح عنه السطورُ وما يختبئ وراءها من تقاطعات التاريخ والخبرات، وإرادة الكاتب توجيه أفق التلقي إلى قضايا أو مشكلات بعينها.
في المجمل وتأسيساً على ما سبق يمكن القول: إنَّ هذه السطور- وهي تعكس ما قرأه كاتبها بخبراته المحدودة في القراءة والمساءلة والنظر- هي مقاربة لما تحصَّل له من فهمٍ من خلال تفاعله مع تلك الرواية المقروءة الموسومة ببخور عدني، وهي للروائي علي المقري. وهذه المقاربة اختزالية، وهي- سواءٌ نجحت في إبراز علاقة القارئ بالمقروء أم لم تنجح- محاولةٌ ليست إلا، ولا يمكن الاقتصار عليها أو اتخاذها مصدراً للتأكيد حصرياً على شيءٍ في المقروء.
إلى ذلك، بالنظر إلى "أنَّ كل فهمٍ يظل نسبياً في الوضعية والطبيعة الفردية الفاهمة التي تجهد نفسها لتوليد الإضاءات ونبش المنظورات" وإلى أنَّ "العمل الأدبي هو أثر ووسيلة وفرصة لتجربة لا يمكن لأي معرفةٍ استنفاد معانيها" وإلى أنَّ "فعل القراءة ينطوي على التقاء وعيين: وعي القارئ ووعي المؤلف" فقد وصفت هذه المقاربة نفسها بالموضوعاتية؛ لتجعل كل ذلك في اعتبارها وهي تقارب وتتبَّع وتنأى بنفسها عن أن تدَّعي أنَّ ما تقوله قراءة أخيرة.
في سياق الرواية:
هذه الرواية تطرح أسئلة الذات في سياق علاقاتٍ مختلفة ومتباينة، الذات في سياق علاقتها بالمكان، وسياق علاقتها بالآخر الشريك في المكان المختلف والمغاير إما في الموقف، أو في الجنسية، أو في الدين، أو في الثقافة...إلخ، وهو ما يجعلها أسئلةً مهمومةً بسؤال الهوية، لكنَّ سؤال الهوية أكثر ما يكون إلحاحاً في مواجهة سؤال الغربة المكانية وما يترتب عليها من شعور بالاغتراب النفسي والثقافي، وهو ما يجعل الذات منفتحةً على سؤال التعايش، وحيث إنَّ التعايش محكومٌ بالعلاقات التي تنشأ بين الذات والآخرين أو بين الآخرين فيما بينهم في مكانٍ واحد أو في ظرفٍ معين، فإنَّه سؤال مفتوح على التدافع الاجتماعي وما يكون من التنوُّع والتعدد والتفاوت وما تلحظه الذات وتحس به من تباينات في الأفكار والممارسات والأهداف والمواقف والرؤى والإشكالات والهموم والقضايا، مما يقتضي إعادة تعريف الذات مراراً وتهيئتها للقبول بالآخرين، والاستعداد للتعرُّف على ما لديهم والتهيؤ للاستماع لحكاياتهم وأخبارهم ومعاناتهم، فلكلٍ منهم حكاية، وهو ما يجعل الذات حريصةً على الفهم والنظر في أسباب ودوافع وذرائع الآخرين، والتأمل في المصائر والنهايات، ومن خلاصة ذلك أن تتنامى إرادة الفهم وتتنامى أسئلة الوجود.
سؤال الهوية وسؤال الذات:
إنَّ سؤال الهوية متعلقٌ بسؤال الذات من حيث هي بالنسبة إلى نفسها، وبالنسبة إلى الذات من حيث علاقاتها وما يكون من تنميطها وتحييزها وتأطيرها، أي من حيث هي في نظر الآخرين، أو لنقل إنَّه متعلقٌ بتصوراتنا الفردية لسلوكنا وقدراتنا وخصائصنا الفردية في سياق العلاقة بالآخرين والانتماء إليهم. وإذا كان مفهوم الذات في أبسط مقاربة له يعني تلك الصورة التي لدينا عن أنفسنا. وهي بلا شك صورة تتغير وتتبدَّل وتتحوَّل مع مرور الوقت وتتأثر بعلاقاتنا وتفاعلاتنا مع الآخرين، فإنَّ مفهوم الهوية مشروطٌ بتلك التغيُّرات والتبدلات والتحولات وما يطرأ من تقييدات وإكراهات، أو لنقل مشروط بإعادة تعريف الذات لنفسها سواء برغبة الاستقلال أو برغبة الاندماج.
من هنا يغدو سؤال الهوية سؤالاً مفتوحاً على الذات وهي تبحث عن كينونتها، ومعنى وجودها، ومغلقٌ بحدود بما تراه الذات لنفسها من مكانة في مقابل الذوات الأخرى، وما تكتسبه من معنى بفعل انتمائها إلى الذوات الأخرى، فالذات بين ما تشعر به وتحسه وتدركه وتتطلَّع إليه وما يُفرض عليها وتتقبَّله أو تقاومه، تبني حيثيةً جديدةً للأنا، وتعمل على انتزاع اعترافٍ ما بما تريده أو ما تحاول أن تبدو عليه، ومن هنا يكون التدافع انتزاعاً للهوية باستمرار.
تبدأ الرواية بحدث وصول فرانسوا الفرنسي إلى عدن المدينة التي لا يعرف عنها شيئاً سوى أنها مكان يوجد فيه زوج خالة ميشيل زميله في الطفولة والدراسة، وهو يعمل موظفاً في شركة التاجر الفرنسي أنتونين بِس، وقد استصدرت أم ميشيل وثيقةً طبيةً تثبت إعاقة ولدها وإصابته بالعرج لتحول دون مشاركته في أي عمل خدمي شاق أو عسكري، وتعفيه من الالتحاق بجبهة الحرب دفاعاً عن وطنه فرنسا في مواجهة النازي، إلا أن ميشيل رفضها، واعتبر تأكيد الوثيقة على عجزه. إهانة مضاعفة له، يحرمه من أداء الواجب، وأي واجب أكبر من واجب الوطن؟ ولأن ميشيل رفض ما تخطط له أمه فقد استخرجت له أوراقاً تمكنه من السفر إلى عدن خوفاً عليه ولتبعده عن رغبته في الالتحاق بالمقاومة، واستعانت بصديقه فرانسوا ليقنعه بذلك.
لكنَّ المفارقة أنَّ فرانسوا "تمنَّى أن يكون هو، أن يكون ميشيل ولديه مثل تلك الأوراق التي تعفيه من الذهاب إلى جبهة الحرب، بل وتمنحه أيضاً فرصة السفر إلى هناك، إلى عدن، بعيداً عن الحرب." وقد قرر أن يسرق هذه الفرصة لنفسه، فكان أن تسلّق سور منزل أسرة ميشيل، للحصول على تلك الأوراق، وهناك وجد زميله ميشيل الذي دخل عليه فجأة وقال له وهو يحاول الهرب: أعرف لماذا جئت وماذا أخذت؛ توقعت منك ذلك؛ ولكن هل توقعت أنت ما أريده أنا؟" فكانت إجابة فرانسوا بعد ارتباك" نعم توقعت. وأخرج من جيبه بطاقة السنة الدراسية الأخيرة التي بدت كافية لميشيل ليتقدم بها إلى فرقة المقاومة المسلحة بصفته فرانسوا الصحيح لا ميشيل المعتل الحاصل على وثيقة تعفيه من المقاومة. هو يعرف أنهم مع الحرب، لا يدققون في الوثائق، ويهمهم إيجاد رقم فقط".
هكذا كل واحد منهما انتحل شخصية الآخر، بحثاً عن فرصةٍ أخرى في الحياة وعن معنىً آخر لوجوده، أحدهما بحثاً عن المعنى الآخر خارج الوطن الذي غزاه النازي، والآخر داخل الوطن الذي ظل يشعر بداخله أن نظرات الآخرين تراه معاقاً وناقصا.
لكن يظل حاضراً في الذات، السؤال: من أنا هنا، ومن أنا هناك؟، فالمعنى الذي تكتسبه الذات يحفزه السؤال: "ماذا يعني الوطن، حين يكون كل من لا يذهب إلى جبهة الحرب لديه إعاقة وطنية؟ كان الوطن بالنسبة لميشيل هو كل شيء، فيما هو، لدى فرانسوا، لا شيء".
إنَّ سؤال المعنى الذي تطرحه الذات وهي داخل الوطن يرتد على الذات ويدفعها لأن تعرف ما يكون لها من خصوصية، لكنها لا تجد ذلك المعنى ناجزاً، وهو ما يدفعها للنظر في المعنى الآخر من خلال رؤية الآخر الذي مثلته شخصية ميشيل تلك الشخصية التي نشأت مع فرانسوا وكانت معه في فصول الدراسة تُلقن الكلمات نفسها عن ماذا يعني الواجب وماذا يعني الوطن. هو وطنٌ في مخيلة ذلك الآخر، الآخر الذي لم تكن المسألة عنده تقبل أي نقاش: وطن أو لا وطن، وفاء أو خيانة، وطنيون أو عملاء، حياة أو موت". وهذه المقارنة بين الذات الهاربة من الواجب الذي لا تراه وذات أخرى تذهب إلى ذلك الواجب لتتحدى إعاقتها الجسدية، ستظل تظهر بين حينٍ وآخر، لتطرح سؤال المعنى، "في جبهة الحرب، ربما، لا يدققون بالهويات. يهمهم وجود رقم مقاتل، ليس أكثر. لكنَّ الذي جاء إلى عدن ليس رقما، وإن كان بهوية غامضة، أو بلا هوية. لقد اختار الطريق المختلف عن الطريق المؤدي إلى الحرب، ولم يدرج كرقم في الكتيبة الملبية لنداء الوطن".
سؤال الهوية وسؤال الوطن:
إنَّ سؤال الوطن الذي بدأت به أحداث الرواية، حيث كان نداء الدفاع عن الوطن سبباً في مغادرة فرانسوا لفرنسا، سؤالٌ وضعته الحرب، ووضعت أمامه معنى الحياة بالنسبة لفرانسوا وزميله ميشيل، ووضعت بإزائه السؤال عن الواجب.
على امتداد الرواية ظل معنى الوطن سؤالاً عالقاً بتأملات الذات وهي ترى نفسها خارج الوطن وتستعيد ذكرياتها داخله، وبين رؤيتين للوطن في ذاكرتها ظل التنازع على معنى الوطن حاضراً، رؤية الذات التي خلصت إلى السؤال: "أليس لكل واحد وطنه المختلف؟" وقررت بلسان الراوي الخارجي أنها "لم تعد تشعر بما قيل عن الوطن، فالوطن الذي في داخلها قال لها غير ما قال للآخرين. لم تشعر أن الوطن قد طلب منها أيَّ شيء، كما طلب من الآخرين، لم تعد ابن الوطن الذي كانت تردد نشيده كل صباح في ساحة المدرسة".
حين تكون الحرب هي الخيار الوحيد في الدفاع عن ذلك المكان الذي نشأت فيه الذات ويُراد لها أن تضحي بحياتها من أجله، يتساوى الوطن باللاوطن، ويظهر سؤال الحياة، وعندها يلتبس الوجود في المكان بما يكون من دلالة المكان بالنسبة للذات، لا بما تكون الذات بالنسبة إلى المكان، "ألم يسمع الجميع يرددون حوله: إنَّه الوطن؟ لا صوت يعلو فوق صوت الوطن؛ هو الشعار الجامع للجميع ينصتون جيداً لصوت الوطن، والوطن يوجّه الجميع: إلى الجبهة سِرْ. لم يقل الوطن غير ذلك. الجميع يؤكدون. لكنه هو لم يشعر بهذا القول، وإن ْسمعه من الجميع، أو أنَّ الوطن، الذي في داخله قال له غير ما قال للآخرين. أليس لكل واحد وطنه المختلف؟".
لم يعد الوطن حيثيةً جغرافية، فالمعنى الذي تبحث عنه تلك الذات التي غادرت جغرافيا المنشأ ليس في مكانٍ ما، إنَّه في نظرتها إلى نفسها من خلال علاقاتها بالآخرين، إنَّه في ما تحمل بداخلها من قناعاتٍ تجعلها لا ترى ما يراه الآخرون، وهناك كان تساؤل فرانسوا وهو يقارن نفسه بزميله ميشيل ويستعيد ما يحاوله والده من دفعه إلى جبهة الحرب دفاعاً عن الوطن: "أليس هناك من طريقٍ آخر، من معنى آخر للواجب والوطن؟" ويتدخل الصوت الخارجي ليعلِّق على ذلك قائلا: "لم يفكر فرانسوا بإيجاد المعنى الآخر أو في البحث عن طريق آخر، غير ذلك الطريق الذي بدا وكأن لا طريق أمامه سواه".
لكنَّ الصوت الداخلي وهو صوت الذات مع ذكرياتها، محاولة تفسير إحساسها في مواجهة الآخرين، وهي تحاول أن تخفي سبب هروبها من الوطن ظل يتردد ويشدها من الوطن البديل إلى الوطن الذي هربت منه: "هناك شباب يسبحون، يتسابقون ويتضاحكون، نساء في ملابس البحر يلاعبن أطفالهن بالماء. فيما كنتُ أسبح بهواجسي إلى البعيد، إلى هناك، حيث تركت نداء المقاومة والتطوع للدفاع عن الوطن، لأجد النداء نفسه وقد لاحقني إلى هنا. ربما كان قد سبقني، أو حملته معي؛ اختفى في أذني، وها هو يسمعني صوته من جديد".
سؤال الهوية في مواجهة الخوف:
جاء فرانسوا الفرنسي إلى عدن باسم ميشيل ليتخفى في هذا الاسم من نداء الدفاع عن الوطن، ذلك النداء الذي أراد إقحامه في الحرب، ولكن موقفه من الحرب وكراهية الإسهام في الحرب تحت أي مبرر، كان واضحاً، وقد اختصره بأنه يراهم يقتلون في حين غيره يراهم يقاتلون. بهذا التعبير أوجزت الذات رؤيتها وموقفها النفسي والفكري من الحرب، فخوفها كان من أن تشارك في قتل آخرين، لا خوفاً من الموت، لكن ذلك لا يعني إن سؤال الحياة لم يكن حاضراً، فالشخصية التي هربت من الحرب تنامت وهي تبني وجهات نظرها في الأشياء والمواقف والعلاقات، ومثلما كان هروبها خوفاً على معنى يخصها، وبحثاً عن فرصة حياة جديدة، فقد ظلت خائفة من أن ينكشف أمرها، وينظر إليها بانتقاص.
عبَّر فرانسوا عن ذاته الممزقة، قائلاً لنفسه: "هكذا، إذا سئل أو سأل: ماذا لو بحث زوج الخالة عنه، باسمه الذي يحمله، سواء كان هو نفسه ميشيل أم فرانسوا؟ فإنه سيبدو وكأنه هرب من خوف إلى خوف"، فقد هرب خوفاً من الحرب، وها هو في عدن التي وصلها بحثاً عن الأمن والحياة، يلحظ تفشي التشدد والتطرف والتسلط والاستبداد، وكأنها على موعد مع الحرب، "ياسين عليك يا عدن من قرْحة المدفع يغني الرجل العجوز على الشاطئ. أحلت سمعي إليها محاولا التخلص من نداءات صاخبة في أذني وكل رأسي. كان يجلس، غير مبال بمن يسمعه أو يراه، متكئاً على صخرةٍ صغيرة، وعيناه شبه مغمضتين".
في عدن التي كانت ملاذاً لكثيرين دون تمييز بينهم، يتضح من خلال نماذج الشخصيات التي استوطنتها أنها كانت ملاذ الهاربين والخائفين، وهذا لا يبدو للوافد إلى عدن إلا بعد أنْ يتأمل في دوافع وأسباب أولئك الذي يحملون أسماء تتوارث انتماءاتها أو يظل الآخرون يرددونها تأكيداً على هوية أصحابها. تلك الهويات التي لم تكن من عدن، فليست عدن غير مدينةٍ مفتوحة على البحر، يعيش فيها الوافدون عليها بسيكولوجية الهارب حتى وإن تعاقبت الأزمنة، فهناك شمعون اليهودي الذي قال عنه العارف: "عم شمعون هارب مثلك. جده أقدم هارب إلى عدن"، وقال شمعون: "الهارب هو جد جد جد جدي. هرب من الاضطهاد في إسبانيا. أنا أشعر أني هارب. لكن عدن هي وطني". وهناك الهندي الذي أشاروا إليه بحفيد الهارب الأقدم، ليخلص العارف إلى القول: "أوووه، كل الهاربين هنا". وأشد ما يكون الشعور بعدم الطمأنينة تحت القمع والظلم حيث يخيم الشعور بالخوف وينتشر ليصبح سمةً عامة للمجتمع كله. وهنا يسأل عن شمعون اليهودي ويوجه السؤال إلى العارف: "ألم تحرره عدن من الخوف؟" فتكون إجابة العارف: "يستطيع الإنسان أن يتحرر من كل شيء إلا الخوف، فلن يتحرر منه إلا بالموت". تلك الإجابة جعلته يستعيد في قرارة نفسه معنى الحياة في مواجهة الخوف الذي هرب منه إلى خوفٍ آخر يتعايش معه في مكانٍ آخر.
صحيحٌ أن ذلك الخوف قد جعل هؤلاء الهاربين إلى عدن مدركين لمعنى التعايش ومعنى الاعتراف بحق الآخرين في وطنٍ بديلٍ يمنحهم فرصة الحياة بعيداً عن إكراهات الآخرين لكن ذلك الأمن وهو شرط الحياة، وشرط الاستقرار، يظل هاجساً يطاردهم ويستجوب أعماقهم، وهم يحاولون التواؤم مع كل وافدٍ جديد، ومع كل سلطةٍ تحكم فالخوف لا يأتي فقط من الغريب أو من أن تكون الغريب، فقد يكون سببه التسلط والاستبداد والتفرد بالحكم والرغبة في الغلبة والنزوع إلى تعميم النموذج الواحد للحكم فيصبح المكان طارداً للاختلاف سالباً لقيمة التعايش غير قابلٍ للحياة.
سؤال التعايش في مواجهة الآخر:
تحكي الرواية تجربةً إنسانيةً تبحث فيها الذات عن معنى حياتها وحدودها في تقاطعها مع حيوات الآخرين الذين وجدوا أنفسهم في داخل الوطن وخارجه بين الحرب والغربة يتدافعون بحثاً عن معنى لوجودهم في مكانٍ بديلٍ لأوطانهم، وتلك التجربة المفتوحة على الأسئلة لا تخلص إلى إجابات، فالأسئلة تتداعى وتتناسل من بعضها بعضا، وكل سؤالٍ يثير قضيةً حياتية، ويطرح إشكاليةً بالنسبة لهذه الشخصية أو تلك، ولا يعنى السؤال بما تكون الإجابات أو ما تحاول أن تقاربه من خلال الإفضاءات أو استرجاع الذكريات، فهي أسئلةٌ متعلقة بوجود الذوات من حيث هي في سياق العلاقات سواء خارج الأمكنة وداخلها، لكن عدن المدينة التي وصل إليها فرانسوا محاولاً النجاة من الحرب، لها أيضاً قصتها مع سؤال التعايش ومنح كل ذاتٍ عابرةٍ بها فرصة الاندماج.
لا يخفي فرنسوا أنَّه وجد في عدن المكان الذي يمنحه الشعور بالوطن، لا من حيث هو مكان يتوفَّر على الخدمات التي كان يجدها في وطنه فرنسا، وإنما لأنها بعيدة عن الحرب وفيها أولئك الآخرون الذين يبحثون عن حياة بديلة ووطنٍ بديل، إلى الحد الذي يجعل فرانسوا لا يشعر بغربته فهنا كل الغرباء، ويصرح بذلك " صرت أرى عدن، من خلال السنة التي أمضيتها فيها، مأوى كل ما هو آخر. لا أقول عدن وطن الآخرين، أو وطن الذي لا وطن لهم، بل بدت لي أنها البديل، حتى عن الوطن، عن أي وطن، بل البديل عن فكرة الوطن كفكرة".
في صميم ذلك القلق الباحث عن إمكانات التحقق خارج المكان الذي نشأ فيه فرانسوا وخارج إرادة المجموع وما يتواطؤون عليه من معنى، استمر سؤال الهوية في إعادة طرح سؤال المعنى هنا أو هناك، واستمر ذلك الماضي في الحضور؛ ففرانسوا الذي يعيش في عدن بأوراق ميشيل، "صار يحمل عبء هويتين، أو شخصيتين في هوية واحدة، غير محققة لا تريد أن يعرفها أحد".
رغم أن فرانسوا في أول وصوله إلى عدن، حاول أن يتخلص من اسمه وما يحمل بداخله من ماضيه وتاريخه وذكرياته، وفي أول موقف سئل فيه فرانسوا عن هويته أشار إلى أنه اسمه:" لا شيء"، فإن الآخرين أشاروا إلى انتمائه إلى فرنسا، وظل الوطن ممسكاً به، حتى إنْ استبدل اسمه ففرانسوا أو ميشيل أمام عيون الآخرين لا فرق بينهما، فهو هنا في عدن في مواجهة الآخرين ذلك الفرنسي، وهو في ذاكرته وحواسه ومشاعره ذلك الذي لا يبرأ من السؤال: من أنا؟
إنَّ الشعور بالغربة في وطنه نشأ من اختلاف رؤيته لمعنى الوطن، وهو هنا يشعر بالغربة من نظرة الآخرين له موسوماً بذلك الوطن الذي هرب منه، فهو الفرنسي الذي في مجتمع عدن لا يهم ما يكون اسمه، وبهذا يتضاعف الشعور بالغربة وهو شعور يستبطن ضياع الهوية، وهو ما لمسه منذ وصوله إلى عدن، وقد دفعه هذا الشعور إلى أن يوجّه خطابه إلى الحبيبة شانتال، قائلاً:" أردت أن أكتب، لكنني انتبهت، وأنا أمسك بالقلم والدفتر، إلى أنني لا أستطيع أن أوجه رسالةً إليك، بل لا أستطيع أن أوجّه ما أكتبه إلى أي أحد ممن أعرفهم؛ فالشخص الذي تعرفينه لم أعد أنا هو، وأنت لستِ أنتِ، أو لم تعودي كذلك، أو أنني لا أقدر أن أبقيك كما كنتِ عليه، باسمك وعنوانك وبما يمكن أن يدلّ عبرك إليّ؛ فإذا صرتُ غير الذي كُنتُه، فقد صار كل الذين ارتبطوا بي غيرهم".
وبين الآخر الذي كان في الوطن يجعل فرانسوا يميِّز خياراته، والآخر الذي هو الآن بعيد عنه وما يزال يستحضره عاطفياً ليبثَّه شيئاً من معنى الحياة بعيداً عنه، وبين الآخرين الذي وجدهم في عدن في شروط حياة أخرى، ظلت الذات تعيد مساءلة نفسها، وظل الصوت يعلو: "ما يلاحظ، أن القادم إلى عدن لا يذكر أسماء الأشخاص والأمكنة في باريس إلا تلميحا. ربما يريد أن يقنع الآخرين، أو يقتنع هو نفسه، بأنَّه لم يعد الشخص الذي كانه، سواء فرانسوا أو ميشيل. ربما هي محاولة من قبله، أيضاً، يُراد فيها من الذاكرة أن تتخلص من ثقلها أو، على الأقل، تتخفف من عبئها الذي كان".
بالتعايش صار المعنى الحائر المشطور بين مكانين معنىً موقوفاً على العلاقات بأولئك الآخرين، الذين تبرز مع كل علاقةٍ بأحدهم رغبةٌ في التعرف على هويته، فالذات تزيح شبح غربتها بالنظر في غربة الآخرين، ويخف شعورها بالغربة بموازاة ما تراه من تدافع الآخرين الغرباء إلى حياة يومية لا مكان فيها للانشغال بالسؤال عن معنى الوجود في هذا المكان أو مدة البقاء فيه.
كما بدأت الرواية بسؤال الذات عن معنى مستقلٍ يخصها، انتهت إلى طرح السؤال عن المعنى الخاص من خلال المعنى الآخر الذي وجد فرانسوا نفسه يبحث عنه بعيداً عن الحرب، وحين لم ينجُ من الشعور بفقدان المعنى في المكان الذي منحه بعض الاستقرار من حيث هو ذاتٌ تعمل وتعيش وتدخل في علاقات مهمومةٍ بالحاضر، لا تحفل بماضي الذات ولا تستدعي الكشف عن أسباب الوجود في هذا المكان، عاد سؤال الهوية يستجوب الذات مرةً أخرى ليكون الصوت الداخلي: "كان يمكن أن يسمع من أصبح في عدن يقول: لست فرانسوا المتخاذل اللاوطني؛ أو يقول، ربما: لستَ ميشيل المغفَّل. لكن هذا التبسيط لم يعد ممكناً، وقد صارت الهوية، على ما تبدو فيه، غير طيِّعة التحقق، لأي أحد منهما".
سؤال التعايش يستبطن سؤال الحياة:
لا يخفي فرنسوا أنه وجد في عدن المكان الذي يمنحه الشعور بالوطن، ويصرح بذلك: "صرت أرى عدن، من خلال السنة التي أمضيتها فيها، مأوى كل ما هو آخر. لا أقول عدن وطن الآخرين، أو وطن الذي لا وطن لهم، بل بدت لي أنها البديل، حتى عن الوطن، عن أي وطن، بل البديل عن فكرة الوطن كفكرة".
لكنَّ ذلك التعايش الذي وجده في عدن، لم يكن يفضي إلى الاندماج دائماً، فما زالت الشخصيات تُعرف بانتماءاتها السابقة على وجودها في عدن، وتُنادى بصفاتٍ دالة على أنها من خارج المكان، وما زال سؤال الحياة الذي يشغلها يدفعها إلى أن تتعايش لكنها بين آونة وأخرى تفقد ذلك؛ فهذا فارح الصومالي يجمع رفاقه ليهجم على اليهود، وهو ما يشعر فرانسوا بأن الحرب لم تنته. وشبح الحرب يعيد تلك الذات الغريبة المغتربة إلى حيث بدأ سؤال المعنى في مواجهة سؤال الذات.
بموازاة هوية الذات التي يبحث عنها فرانسوا محاولاً جعل فردانيته مركزها، كانت عدن المدينة التي منحته فرصة العمل والاستقرار تبحث عن هويتها بين اتجاهات متباينة ومتناقضة في السياسة اتجاه يحاول أن يعيدها إلى العروبة والعرب، واتجاه يحاول أن يلحقها بالإسلام ويفرض عليه صورته الذهنية للإسلام والمسلمين ممثلاً بالشيخ عبد الجبار، واتجاه يحاول أن يجعلها للعدنيين فقط، واتجاه يحاول أن يجعلها تابعة للاستعمار، وهذا التجاذب بدا لفرانسوا رديفاً لذلك التجاذب التي تعيشه حبيبته شانتال وهي ترد- على رسالته التي لم يذكر فيها اسمه- بما يفيد أنها تريد أن تعرف من هو من أولئك الذين كانوا يتنافسون عليها.
لم يكن الحسم بالنسبة لرسالة شانتال ممكناً، كما هي الحال بالنسبة لعدن، فالذاتُ عالقةٌ بين زمنين وهويتين، ومكانين، وبعد أن صارت عدن مسرحاً للعنف والتطرف، برز سؤال الهوية مستبطناً معنى الوجود في سياق الشعور الفادح بالضياع والحيرة، وفي مونولوج طويل، أطلق فرانسوا لنفسه التساؤل: "لا أعرف هل أبقى أم أمضي. فما لي أذهب بدون عدن ومالي أبقى بدون ماما، سأتبع قولها إنَّ" عدن ليست سجناً، له جدران وباب واحد"، "عدن بحرٌ" سأقول. بوابةٌ من البحر وإلى البحر، لا يمكن لأحد أن يغلقها. لكنني لم أعد أعرف من أكون أنا فيها. لم أعد أعرف من أكون. مَنْ تكون أنت؟ هل ستعترف، في الأخير، بما لم يتعترف به من قبل؟ من قال لك إنَّ الوطن كذبة كبيرة؛ هل كنت تحلم؟ هل صدَّقت أن الوطن وهمٌ وعبرت كل هذه المسافة لتبحث عن بديلٍ عنه؟ أو قل إنك لم تكن هو، أو لم تكن أنت. أليس اللاوطن هو وهم، أيضاً؟ بمَ تفكر؟ ستقول إنك قد أخذت حصتك من الحياة وعليك أن ترحل. ترحل ولو إلى فوهة بركان أخرى، غير عدن. هل صرت الآن تعرف معنى كريتر، اسم عدن؟"، وفي هذا المونولوج نجد معنى الوطن يتداخل بمعنى الحياة وينفتح على الذات خارج سلطة المكان، وهو ما جاء ملخَّصاً على لسان شخصية ماما في حديثها مع فرانسوا عن البركان، إذْ قالت: "كأنَّ الحياة بركان، يهدأ حين نتوزع منه، لكنَّه يصبح ثائراً متفجراً ولا يخمد، وإنْ بدا لنا خامداً، إذا ما تلاقت براكيننا الخاصة في بركان واحد".
خلاصة:
يظهر تسريد الأحداث والعلاقات ورمزية المكان الذي جعلته الرواية مسرحاً لتظهير سؤال الذات وهي تبحث عن أبعاد معنى الحياة في مجتمع الرواية بتعالقاته وتقاطعات الرؤى والمواقف والأحداث والهموم والمشاغل والأعراق والديانات والثقافات، كيف أنَّ الذات كيفياتٌ محكومةٌ بالعلاقة بالآخر سواءٌ كان ذلك الآخر حاضراً بشخصه في التجربة الحياتية أو في التجربة الحياتية المحفوظة في الذاكرة.
كما يظهر كيف أنَّ الهوية مسألةٌ معقدة تتداخل فيها العوامل الاجتماعية والثقافية والسياسية، وهي سؤالٌ ديناميكي يستبطن الغائر في اللاوعي بمواجهة الحاضر في المعاناة والتجربة، وبين الماضي والحاضر يعملُ على تشكيل الذات وترسيمها نفسياً وفكرياً من خلال التجارب الفردية والجماعية وتأثير الزمن والمكان.
كما تظهر كيف يمكن أن يلعب المكان دوراً في استبدال هويةٍ بأخرى، لكنَّه في الوقت نفسه لا يكفي، ولا يمكن أن يعوِّض الذات عما تفتقده من معنى الحياة حين تفقد أحبابها، فالذات علائقية، والمكان على أهميته لا يمكن أن يمنح الذات معنى الأمن والسلام إلا بالتعايش مع الآخرين.
إنَّ عدن المدينة الكوزومبولتانية التي كانت فضاءً للتعايش بين مختلف الأعراق والثقافات والأديان والألوان والآراء في سياق زمنٍ استعماري كانت أيضاً منفىً بمعنىً ما لكلِ من لم تستوعبهم أوطانهم بفعل الفكر الحاكم في تلك الأوطان، وكان مجتمعُ عدن مجتمعَ أفرادٍ أو جماعاتٍ أو أقلياتٍ تبحث عن استقرارٍ يتيح لها صيغاً من صيغ للحياة.
لكنها الآن ليست المدينة نفسها حين اقتحمها التشدد والتطرف، وسيطر عليها الصوت الواحد، لم تعد تلك المدينة التي ترحب بالغربا وتحنو عليهم كأبنائها،، لقد صارت طاردةً حتى لأبنائها حين تغيَّر الفكر الذي يحكمها ويتحكّم بها وبمصائر ساكنيها وبرؤيتهم للذات وللآخر، بتغيِّر الفكر المهيمن تغيَّر المكان وفقد روحه ورائحته، ومن ثمُّ لم يعد لعدن المكان الفيزيقي سوى تلك الرمزية العالقة بين زمنين، تلك الذكرى التي تُستعاد بكثيرٍ من الأسى والأسف، لقد صارت مدينةً أخرى وأظهرت أن الهوية ليست ثابتة أو محكومةً بالمكان، وليست حقيقةً موضوعية نحملها معنا، كما أنها ليست موقوفةً على ما نراه لأنفسنا أو على تصوراتنا عن أنفسنا، وإنما على قبولنا بالاختلاف والاعتراف بالآخر.