بلال قايد عمر
شهد السرد الأنثوي اليمني صعودًا لافتًا بعد مرحلة التسعينيات، ثم اختفت معظم أسمائه لسبب أو لآخر. المتتبع للإصدارات الأنثوية خلال التسعينيات وبداية الألفية الجديدة سيجد أن الفارق كبير؛ فقد ساهمت ثورة التكنولوجيا في الانفتاح على الآخرين والعالم. وبالطبع لم يكن هذا الصعود بمعزل عن المكانة المتنامية للمرأة في الحياة الثقافية داخل المجتمع اليمني، والتي اكتسبتها طوال سنوات من النضال، "فقد جاءت هذه المكانة استجابة للوعي الأنثوي الذي عرف طوال التاريخ استبعادًا لا يمكن تجاهله"[1]، والمطلع على "الآداب العربية يرى أن الرؤية الذكورية قد تغلغلت في الأدب العربي"[2] مما أزاح المرأة للخلف بشكل متعمد.
تقول جوديث فيترلي: "إن المرأة حينما تقرأ في الأعمال الروائية، تجد نفسها مدفوعة إلى التماهي مع أعمال تظهر فيها المرأة على أنها عدوة للبطل، وعلى القارئ لهذه الأعمال أن يتعاطف مع هذا البطل المناهض للمرأة"[3]، وهذا التنميط عائد إلى ما تم تربية الأنثى عليه، بأن الرجل هو الصوت وأنها الصدى.
قضية الانتماء
"كيف للمرء أن ينسلخ عن شيء متأصل في كينونته، مرادف لاسمه، لتطلعاته، لعينيه اللتين يرى بهما العالم؟"[4]
هكذا تتساءل منال الشريفي في روايتها "نور زين" التي صدرت عام 2017م عن الدار العربية للعلوم ناشرون، بعدد صفحات 365 من القطع الكبير، وهي الرواية الأولى للكاتبة، التي ولدت في مدينة عدن1981م.
يظن الإنسان أنه يستطيع أن يواصل الانتماء حيث أراد وأنه أمر بسيط يستطيع أن يتحكم به، ولكن للانتماء قول آخر، فهو يظل متربصًا بنا من خلال مشاعرنا وذكرياتنا التي اكتسبناها وغاصت عميقًا داخل ذواتنا.
الانتماء من القضايا الأساسية المطروقة ضمن رواية "نور زين" للكاتبة منال الشريفي. استطاعت الكاتبة أن توصل هذه القضية للقارئ من خلال ما يسمى بالخطاب في النقد الأدبي، أو ما أُطلقُ عليه (قضية) في قراءتي هذه، وإن كان هناك إسهاب في كثير من الفصول؛ حيث تواصل الكاتبة الإيغال في الانتماء، وتعطي رؤية شبه كاملة للحياة لمدينة عدن: الحافات، الأسواق، الكلمات العدنية، البيئة المحيطة، وتنتقل للمدن التي أقاموا فيها؛ حيث تسرد فيها وبحسرة ما آل إليه الوضع مع الحياة (المادية) التي يعيش فيها ساكنو تلك المدن، وغياب الحميمية من حياتهم.
تُعبر الكاتبة عن القلق الذي يصيب الإنسان: قلق الانتماء، قلق الترحال، قلق البداية من جديد وشعور الإنسان بجدوى السفر والغربة في ظل المتغيرات التي أصابت الوطن الأصل، وحتمية الذوبان في ظل العولمة؛ وهي رؤية ظهرت ضمن رؤى كثيرة أرادت الكاتبة أن تضمنها في الرواية، وأن تقول إن الكتابة تظهر اعتراضًا- معلنًا أو مضمرًا- "ضد الرؤية الذكورية التي صاغها الوعي الاجتماعي صوغًا يفتقر إلى التنوع والتعدد"[5].
تناولت الكاتبة العديد من القضايا والمشاكل التي أصابت مدينة عدن وسكانها من 2000م وحتى 2017م، مرورًا بمدن عدة: عدن، دبي، مونتريال، تورونتو، الخُبر. ويلاحظ أن اتجاهها الواقعي في الرواية كان طاغيًا، فقد نقلت الواقع ووصفت الحنين رغم الظروف والتقلبات التي عاشتها عدن خلال سنوات الأحداث التي مرت بها "نور" كما نجد أن شخصيتي الابنة نور والأب زين متطابقتان تكوينًا ومشاعر، فـنور فتاة عدنية تنتمي لإحدى الحافات في مدينة كريتر-عدن- في نهاية العشرينيات من عمرها، وهي الأقرب لوالدها "زين" الذي ظلت تنهل الكتب من مكتبته.
تتعرض نور لتجارب ومعاناة عاطفية واضطرابات لعدم استيعاب الأم، ومحيطها، لشخصيتها، وتجد نفسها في كثير من الأحيان مكرهة على التماهي ضد نفسها. ومن خلالهما (زين ونور) تسرد الكاتبة تاريخ مدينة عدن والحنين لها ولماضيها الجميل والانتماء غير المشروط لها، وطوال قراءة الرواية يتناغم القارئ مع واقعيتها المغلفة بالحنين وتنعكس القراءة على واقع "عدن" اليوم ومدى نقلها ومطابقته له.
لم تحاول الكاتبة أن تجعلنا نعرف الكثير عن شخصية نور وتكوينها وتطورها، سوى ما أرادتنا أن نصل إليه فيما يخص هوية الانتماء وبعض الانعطافات التي مرت بها، والتي ظهرت خلال الحوارات الداخلية، "المنولوج"، والحوارات الأخرى مع زوجها ووالده وشقيقته، ومن خلال الحبكة التي اعتمدت بشكل كلي على الشخصية ولم تستطع أن تجعلها في إطار واضح، ما يُشعر القارئ بأن هناك فراغًا غير مفهوم.
كما تُظهر حواراتها مع عمر وحنان الكثير من النقاط حول الغربة والتعليم ووضع مقارنات ثنائية: أمين-بسام، عمر-يارا، نور-زين.. وغيرها من الثنائيات، وتُظهر الحوارات الأخرى، مع نساء العائلة في المدن التي أقمن فيها، مدى الانفصام الذي يعيش فيه بعض من هاجر بحثًا عن الاستقرار، الذي لم يجدوه في مدنهم، فيكون التباهي تعويضًا عن الفقر الذي عاشوه ذات يوم.
تتميز الرواية بالسرد السلس في كثير من الأوقات، والوصف الذي يتدفق بإسهاب في بعض المواضع، عبر الراوي، لمدينة عدن ويظهر حنينه الجارف لها، ويقابله الوصف الجاف لـ دبي، تورنتو، والخبر، حيث تختار الكاتبة هنا كلماتها بعناية لتجعل القارئ مشتركًا في تجربتي (نور-زين) ويعيش معهما أحداثهما ومشاعرهما. وبفضل هذا الأسلوب، يصبح القارئ مرتبطًا بالشخصيات الرئيسية ويشعر بالتحامه بها في المقاطع التي تصف فيها مدينة عدن وناسها، وحواريها، وعاداتها.
تظهر الشخصيتان (أمين- بسام) في الرواية كحامل إضافي للشخصيتين الرئيسيتين، حيث تسرد الكاتبة الطبائع المختلفة بينهما؛ "أمين"، متفوق دراسيًا ويسافر للدراسة في إنجلترا وهو ينوي عدم العودة لبلده ويخطط للهجرة خارج القوقعة التي يعيش فيها "والداه"، كما يراها هو، بينما "بسام" الذي لا يرى نفسه يعيش خارج "الجنة" كما يراها ويشعر بها، ويعافر من خلال عمله بالتاكسي الذي يملكه ويحاول أن يجد عملًا آخر، "بائع عسل"، حتى يحسن من وضعه، ووالدهما الذي حرم من التعليم؛ لأنه لم يكن من مواليد مدينة عدن حسب القانون وقتها، يبني أمنياته عليهما؛ وأن يسافر أمين الذي يمثل حلم (زين) لينهي دراسته ويعود ليخدم مدينته التي وهبته كل شيء، وبسام الذي يعرف حب أبويه لأمين وأنه مجرد تحصيل حاصل لوالديه رغم محبتهما له، وهو ما يعكس رضى بسام أن يكون تاليًا بعد أمين، وبينما يخذل أمين والده ويختار العودة للغربة بعد محاولة قصيرة للاستقرار في صنعاء، يظل بسام وفيًا لفكرة العيش في جنته التي أرادها حتى وفاته المفاجئة في طريق عودته من مدينة شبوة بفعل الإرهاب الذي طرق أبواب المدينة وتدخل الطيران الأجنبي.
الذات والنظرة للآخر
سنجد في الرواية التمازج والتضاد بين الذات والمجتمع، والتفاعل بين الفرد والمجتمع، وكيف يؤثر التوجه الاجتماعي والثقافي على هوية الفرد وتصرفاته، بجانب العديد من الأفكار التي تشغل بال العديد من الشباب في المجتمع، سكبتها الشريفي في الرواية، وناقشت كذلك العلاقات الاجتماعية في دول المهجر من خلال زوجها "عمر" ووالديه وأخته "يارا"، التي تعيش قصة حب مع "دان" الذي يعلن إسلامه ليتزوجا وسط صراع تقليدي بين المجتمعين (العربي-والأجنبي). صراع بين هوية انتماء "الذات" وهوية الوطن والتناقض الداخلي بين الحب والعادات والتقاليد التي نشأت الأم فيها وتقوقعت، وما منحته الهوية البديلة "الآخر" للأب والأسرة من استقرار مادي ونفسي.
تعايش نور كل هذا التناقض وتكتمه، فيثير داخلها اضطرابات تؤثر على استقرارها الداخلي؛ مثل الغربة الذاتية في البلدان التي استضافتهم وتحقيق الذات والتحديات التي يواجهها من نشؤوا في مجتمعاتها المحلية ليغادروها إلى مجتمعات أكثر انفتاحا.
ومن خلال نور تستكشف الكاتبة مراحل الصراع (الداخلي-الخارجي)، داخلها بوضع المقارنات بينها وبين نفسها لتخلص في كل مرة أن مدينتها لا مثيل لها ولا ينقصها سوى أشخاص مخلصين لها. وتدور المقارنات نفسها داخل ذهن (زين) ويخلص للنتيجة نفسها، وإن بتعبير آخر مفاده أن مدينة عدن ابتليت بمسئولين أضاعوها.
عدن من الداخل
قدمت الرواية صورًا للحياة الاجتماعية والثقافية في: عدن، إيرلندا، دبي، تورنتو، والخُبر. بطريقة غير واعية، ومن خلال السرد، تنحاز الكاتبة لموطنها وحنينها، كما تلقي الضوء على صورة الآخر في الذهنية المحلية من خلال شخصية "إميليا" الإيرلندية زوجة "أمين"، وتحاول الكاتبة أن تنقل لنا أفكار والدة "أمين" التي لم تستطع أن تمتص صدمة أن أمين عاد متزوجًا من أجنبية، وهي التي كانت تحلم أن تختار له زوجته، وتحاول إميليا أن تتجاهل شعور عدم رضى عمتها بهذا الزواج ونظراتها لها، لهذا تحاول الأم أن تربطه ببعض القضايا الاجتماعية "الماضية" عله يتخلى عن إميليا ويعود حقًا، وليس عودته التي تشبه السراب! بالمقابل نرى إميليا تتعايش مع الواقع بعد أن تمتص صدمة والدة أمين، وهنا تتجلى "الذات والنظرة للآخر" من خلال الحوارات المتفرقة طوال الرواية بين إميليا ووالدة أمين ووالده.
كما تعكس الرواية الصراع الثقافي الذي قد يحدث بين الشخصيات المختلفة أو بين الثقافات المختلفة داخل المجتمعات الأخرى، ويتجلى هذا الصدام في قضايا مثل القيم الاجتماعية التقليدية وبين النشأة مقابل التحديات الحديثة والمعاصرة.
سنجد في الرواية خطابات عدة، كما يطلق عليها، وهي ترادف "القضايا" الاجتماعية المتعددة التي تكتسب أهمية كبيرة مررتها الكاتبة عبر الشخصيات والحوارات؛ ومن بين هذه القضايا:
- قضية الانفصال: والمظاهرات التي يقودها الشباب دون وعي وإدراك للنتائج المحتملة مستقبلا.
- قضية عدن: والتغيير الديموغرافي الذي حصل لها خلال سنوات الوحدة.
- الاغتراب: وثنائية الإيجابيات والسلبيات من خلال الشخصيات وتوجهاتهم وخلفياتهم المعرفية.
- الجماعات الدينية: وأسئلة استقرارها في المحافظات الجنوبية.
- قيود المجتمع: مواجهة المرأة للتحديات والقيود الاجتماعية والتوقعات المفروضة عليها، وتستكشف كيف يتعين على النساء التكيف مع تلك القيود ومحاولة العيش وفقًا لما يفرضه المجتمع عليهن.
الخلاصة
تأخذ "منال" المتلقي في رحلة سردية اجتماعية ابتداء من تطور شخصية نور على مر الأحداث ودور الهوية الشخصية والانتماء وكيفية تشكلها وتطورها، بالإضافة إلى الانتماء إلى مجموعات اجتماعية معينة خلال غربتها الخارجية وتأثير ذلك على غربتها الداخلية.
فـ نور التي تعاني من مشاكل في التعامل مع أسرتها والمجتمع، ومن الشعور بالإحباط والعجز وسط بيئة لا تتقبل خياراتها، هي الفتاة المتعلقة بالكتب، الهادئة، الساذجة، وهو ما جعلها تعيش مرحلة انزواء، لكن مع مرور الوقت وتعرضها لتجارب متعددة الأبعاد، تخلق صراعات داخلية تجعلها تفقد توازنها أحيانًا، لولا وجود "زين".
ومن خلال سفرها لأكثر من مدينة مع زوجها "عمر"، تتطور شخصيتها لكنها بالمقابل تتقوقع، يقابلها زين في غربته الداخلية متحسرًا على ما كانت عليه مدينة عدن بحواريها وكيف أصبحت بعد "وحدة" و"حرب" غيرتا ملامح المدينة وطبائع أبنائها. ومن خلال ارتباط نور بوالدها تكاد تكون "زين" آخر وعبرهما نستكشف الحنين لعدن وحواريها وإنسانها.
تقوم "نور-زين" بتقديم صورة تسجيلية للتغيير السلبي الذي مرت به عدن، هذا ما يظهره الراوي في كثير من الأحيان وعن طريق المقارنة غير المباشرة؛ من خلال نسج أحداث بسيطة غير معقدة مرت بها عدن، من جوانب سياسية واجتماعية تحاكي طبيعة الفرد العدني الأصيل، حيث تستخدم الكاتبة لغة بسيطة وأبياتًا من الشعر لتعميق الذوبان فيها.
يتميز السرد بالتفاصيل التي قاربت على الاندثار، ومن خلالها تحاول الكاتبة أن تعيد إنتاجها في تجربة القراءة وتقريب الأحداث والشخصيات للقارئ.
نختم هذه المادة بما قاله جابر عصفور: "إن الرواية العربية هي ملحمة الطبقة الوسطى، ولكن في البحث عن هوية لها، داخل مجتمع ينقسم على نفسه، فيتمزق حاضره بين تقاليد ماضيه وآفاق مستقبله بالقدر الذي تتمزق به هوية هذا المجتمع بين تراثه الذي يشده إلى حلم مثالي عن عهد ذهبي في الماضي، وحضارة الآخر الأجنبي الذي يشده إلى حلم مثالي مناقض في وعد المستقبل"[6].